الاراميين

الآراميون Arameans اسم عام يطلق على مجموعات كبيرة من القبائل الرحل القديمة كانت تقطن في شمالي بلاد العرب, وتتكلم اللغة الآرامية بلهجات متعددة. وقد استطاعت هذه القبائل ما بين القرنين الثاني عشر والثامن قبل الميلاد أن تسيطر على بلاد واسعة في جزيرة الرافدين بين دجلة والفرات وفي سورية, وأن تؤسس مجموعات زراعية مستقرة ودولاً وممالك وأسر حاكمة. وقد أُطلق اسم الآراميين على البلاد التي سكنوها فدُعيت باسم «بلاد آرام» قروناً عدة قبل أن تعرف منذ العصر الهلنستي السلوقي باسم سورية (القرن الرابع قبل الميلاد).

أصل الآراميين

ما يزال التاريخ الآرامي الباكر غامضاً لقلة الوثائق والمصادر المعاصرة. ويختلط ذكر الآراميين في المراحل الأولى من تاريخهم (أواخر الألف الثاني ق.م) بتاريخ الأقوام التي سبقتهم إِلى استيطان المشرق العربي القديم, ولاسيما الأموريين الذين استقروا في حوض الفرات وفي المناطق الواقعة إِلى غربيه, وقد حلّ الآراميون بينهم واختلطوا بهم.

ويعد الآراميون من الشعوب العربية القديمة التي عاشت حياة بدوية زمناً طويلاً. ويبدو أنهم تجولوا قروناً في البوادي الغربية الشمالية إِلى أن استقروا في المناطق الواقعة بين تدمر وجبل البشري قبل أن يتبسطوا, في أواخر الألف الثاني ق.م, في أنحاء «الهلال الخصيب» شرقي الفرات وغربه, وذلك بعد انهيار التوازن في بلاد المشرق القديم بتزايد حدة غارات شعوب البحر وتحركاتهم, وحدوث فراغ جيوسياسي في المنطقة بسبب انهيار الامبراطورية الحثية في الأناضول وسورية الشمالية, وانحسار النفوذ المصري عن بلاد كنعان في سورية وفلسطين وضعف بابل الكاشية. ويرتبط اسم الآراميين في هذا العصر المبكر بجماعات من البدو الرحل كان يُطلق عليهم اسم «الأخلامو» الذين ينتمي إِليهم «الحانيون» و«السوتو» من قبائل مناطق الفرات الأوسط. ويمكن تتبع تحركات هذه القبائل منذ القرن الرابع عشر ق.م من المصادر الحثية (حوليات حاتوشيلي الثالث) والآشورية (حوليات الملك أددنيراري الأول 1307-1275ق.م), ومن الوثائق المعروفة برسائل تل العمارنة (أخيت - أتون) التي عثر عليها في مصر, وهي رسائل مكتوبة بالأكدية البابلية وبخط مسماري تبادلها بعض أمراء سورية وفلسطين وغيرهما من بلاد المشرق القديم, والفراعنة المصريين من الأسرة الثامنة عشرة (القرن 14ق.م). وقد ورد ذكر الأخلامو الآراميين في بعض رسائل تل العمارنة من عهد أَخناتون (نحو 1375ق.م) عندما كانوا يتجولون على ضفاف الفرات. وبعد أن تمكن هؤلاء من الاستيطان والاستقرار على ضفاف نهر الخابور وعند مجرى الفرات الأوسط في المنطقة التي عرفت باسم «آرام النهرين» بدؤوا يؤسسون إِمارات ودويلات سرعان ما تصدى لها الملوك الآشوريون.

تاريخهم

ذكر الآراميون لأول مرة في وثائق الملك الآشوري تكلات بلاصّر الأول (1116-1076ق.م) للدلالة على قوم من البدو الأعراب وعلى منازلهم من دون أن يقرن اسمهم بالأخلامو. ويتباهى هذا الملك بأنه شن عليهم وعلى الأخلامو أيضاً ثمانية وعشرين حملة على جبهة امتدت من جبل باسار (البشري) وتدمر إِلى عانة ورابيقو على ضفاف الفرات. وفي نهاية القرن الحادي عشر ق.م أسس الآراميون مملكة «بيت عديني» على ضفتي الفرات في المنطقة الواقعة جنوبي كركميش (جرابلس) وأسسوا في وادي الخابور إِمارات لاقي وبيت بخياني (تل حلف), وبيت خالوب واستقرت قبيلة «تمناي» في نصيبينا (نصيبين), وحزيرانا وحيدادا جنوب غربي ماردين في الجزيرة العليا. أما الحد الأقصى للتوسع الآرامي في الشمال فهو «صورو» (أي الجبل), والمقصود هنا هضاب طور عابدين. أمّا في غربي الفرات, فقد تبسط الآراميون بالتدريج غرباً حتى جبال الأمانوس واستوطنوا في سمأل (زنجرلي في تركية). وكثر عددهم حول «أرفاد» قرب «أعزاز» حيث تأسست مملكة بيت أجوشي التي امتدت على منطقة حلب كلّها. كما انتشروا في حوض العاصي, وصارت حماة في أيدي حكام آراميين. ويلفت النظر أن الاستيطان الآرامي كان يزداد كثافة باتجاه الجنوب. ففي سهول البقاع وعلى سفوح جبال لبنان الشرقية قامت مملكة «صوبة» التي ضمّت أراضي البقاع الجنوبي وجزءاً من وادي بردى وعنجر (عين جر), ويمكن أن تكون قد أقامت اتحاداً مع مملكة «بيت رحوب» على نهر الليطاني, و «بيت معكة» على سفوح حرمون, و«جشور» شرق بحيرة طبريا ومملكة دمشق في حوضي بردى والأعوج وسفوح قاسيون والغوطة.

وعند منعطف الألف الثاني إِلى الألف الأول ق.م انتقل مركز الثقل إِلى دمشق التي أضحت أهم موقع سياسي في سورية, وعلى هذا النحو تمكن الآراميون من الاستقرار في كل أنحاء الجزيرة وأرض النهرين وسورية.

وفي نحو 1030 ق.م تصدى تحالف من هذه الدول الآرامية بقيادة هدد عزر ملك صوبة مع العمونيين في شرق الأردن والأدوميين في منطقة البحر الميت والنقب ومع آراميي بلاد آرام النهرين لتحالف قبلي تتحدث عنه المصادر الإِخبارية التوراتية وحدها تألف من بني إِسرائيل ويهوذا في أرض كنعان (بلاد فلسطين القديمة) بقيادة الملك داود (مطلع القرن العاشر ق.م). وتروي هذه المصادر نفسها أخباراً عن انتصارات ملحمية على شعوب المنطقة المحيطة ببلاد كنعان ودولها وممالكها, ولكن لم يعثر على ما يؤيد هذه الأخبار في مصادر أخرى, وهذا ما يثير الشكوك في دقتها ومبلغ صحتها. أما سليمان ابن داود (973-936ق.م) فقد أعلن امتداد دائرة نفوذه إِلى كل هذه المناطق الآرامية ما عدا بيت عديني على الفرات, بعد مقاومة عنيفة من الممالك الآرامية المتحالفة: صوبة (في البقاع) وحماة ودمشق. لكن مملكة آرام دمشق بزعامة رصين الأول (نحو 950ق.م) هي التي استطاعت أن تنهض بسرعة وأن تؤلف تحالفاً تصدّى لمطامع مملكة إِسرائيل التي انقسمت على نفسها لأسباب قبلية ـ اجتماعية ـ دينية بعد موت الملك سليمان. ولا توجد مصادر تاريخية مقابلة لهذه المرويات الإِخبارية في أسفار العهد القديم.

توسعاتهم

أما خلفاء رصين فقد دعي كل منهم بلقب برهدد (أي ابن هدد). ويرد ذكر الملك الآرامي في الوثائق الآشورية باسم أدد ـ إِدري (هدد عزر). وقد تصدى هؤلاء الملوك لمطامع ملوك آشور التوسعية ولغارات ملوك إِسرائيل من بيت عمري التي تتحدث عنها أسفار التوراة, ولاسيما في أيام الملك آخاب بن عمري (875-852ق.م). واضطر آخاب إِلى الانسحاب والتراجع من بعض المواقع في حوض الأردن عندما بدأ الآشوريون يتوسعون غربي الفرات منذ أيام آشور ناصر بال الثاني (884-859ق.م) ثم في زمن ابنه شلما نصر الثالث الذي نجح في ضم مملكة بيت عديني الآرامية على الفرات (856ق.م) إِلى مملكته, وتقدم بعدئذ غرباً إِلى حوض نهر العاصي ليواجه عند قرقر شمال حماة تحالفاً كبيراً بزعامة برهدد ملك آرام دمشق ضمّ اثني عشر ملكاً وأميراً في سورية وفلسطين الساحلية والداخلية وذلك سنة 853ق.م. واستطاع الجيش الآرامي الذي قيل إِن عدده زاد على ستين ألف جندي, وجهز بالمركبات الحربية والفرسان والمشاة المدججين بالسلاح, أن يتصدى لحملة شلما نصر الثالث واضطره إلى التراجع أمام المقاومة العنيفة, ولعوامل داخلية في العاصمة الآشورية اضطر الملك الآشوري إِلى التعجيل في العودة إِلى عاصمة ملكه من دون تحقيق نتيجة حاسمة. ومع أن البيانات الرسمية الآشورية المعاصرة تتحدث عن انتصارات مبالغ فيها, ومغايرة للحقائق التاريخية التي تلت المعركة, إِلا أن الآشوريين تمكنوا بالمقابل من فرض نفوذهم على القبائل الآرامية في حوض الفرات.

وبعد إِبعاد الخطر الآشوري عن العالم الآرامي في غرب الفرات أحرزت مملكة آرام دمشق مكانة مهمة في النصف الثاني من القرن التاسع ق.م عندما تولى الحكم فيها حزائيل ويعني اسمه «ايل يرى» (841-805ق.م) الذي أنهى حكم أسرة برهدد وأصبح أعظم محارب في التاريخ الآرامي. وقد دب الذعر في مملكة إِسرائيل, كما يتضح من مواعظ النبي اليشع المنذرة بخطر داهم. وكان من نتائج الانتصارات التي حققها ملك دمشق على جبهة اليرموك بذر الخلاف في إِسرائيل عندما نادى اليشع بالقائد «باهو» ملكاً, وكان أول ما أقدم عليه ياهو هذا أن قتل سلفه يورام (الملوك الثاني, 9و10) ثم ارتمى على أقدام شلما نصر الآشوري عدو حزائيل, ويثبت ذلك نحت على المسلة السوداء يبدو فيها باهو ملك إِسرائيل وهو يقبل الأرض عند أقدام العاهل الآشوري. ومع ذلك فقد بقي ملك آرام دمشق سيد الموقف في معظم أصقاع العالم الآرامي فبسط سلطانه على شرق الأردن, ومدّ نفوذه من وادي اليرموك إِلى أرنون (نهر الموجب), ثم دخل أراضي فلسطين ووصل إِلى بلدة جات الفلسطينية شرق عسقلان. ويبدو أنه اجتاح معظم أراضي فلسطين. ولا تتوافر مصادر آرامية تفصل ما حدث في هذه الحقبة, كما تصمت المصادر العبرية التوراتية عن ذكر الوقائع: إِلا أن سفر الملوك الثاني يعترف بالحصار الذي ضربه حزائيل على أورشليم (بيت المقدس) ولم يرفع عنها إِلا بعد أن قدم أهلها الذهب إِلى عاهل آرام. ثم تجددت هجمات مملكة إِسرائيل وغاراتها التوسعية بعد ذلك على أراضي آرام في مناطق حوض الأردن الأعلى, وتتابعت الحروب المتقطعة التي امتدت نحو قرن حتى الثلث الأخير من القرن الثامن ق.م. تتخللها أوقات هدوء وتوقف, ولكن حزائيل نجح في فرض سيادة آرام على معظم أرض كنعان, وشهدت إِسرائيل في أيام يوأحاز, الذي خلف ياهو أوضاعاً شديدة وعصيبة (أواخر القرن التاسع قبل الميلاد) بعد أن فرض عليها حزائيل تقييد تسلحها. وجاء وصف ذلك في سفر الملوك الثاني, (الإِصحاح 7:13) كما يلي: «لم يكن لجيش إِسرائيل إِلا خمسون فارساً و10 عربات وعشرة آلاف من المشاة لأن ملك دمشق أباد بني إِسرائيل وجعلهم كالغبار الذي تطؤه الأقدام).

ظلت آرام دمشق منيعة على أعدائها معظم القرن الثامن ق.م وهي ترد الهجمات الآشورية من الشرق وتحمي جبهتها الجنوبية الغربية في حوض الأردن. ولكن سلطة الملك الآرامي بعد حزائيل تضعضعت بسبب قوة الهجمات الآشورية, ولاسيما في حملة أددنيراري الثالث (810-783ق.م) فلم يتمكن برهدد الثاني (806ق.م) من المحافظة على إِنجازات حزائيل على الجبهة الجنوبية, وعادت مملكة إِسرائيل إِلى مواقعها السابقة بعد أن تولى يربعام الثاني العرش في السامرة (783-743ق.م). وراح يهاجم أهم الممالك الآرامية في دمشق وحماة.

بلغ الصراع الآرامي - الآشوري ذروته في أواسط القرن الثامن ق.م عندما تولى تكلات بلاصر الثالث عرش آشور (745-729ق.م) فقاد سلسلة من الحملات نحو الغرب انتهت إِلى القضاء على تحالف آرامي كبير بزعامة «متع إِل» ملك أرفاد وحليفه «برجاية» ملك «كتك» (لم يحدد موقعها وأسماء ملوكها إِلى اليوم), وضمن هذا الحلف «آرام كلها» كما ورد في نصوص سفيرة. وهو تعبير له دلالته, ولا يرد في أي نص آخر ويشمل كل العالم الآرامي القديم في سورية وحوض الفرات. إِلا أن الآراميين لم يتمكنوا عملياً من توحيد صفوفهم, واستطاعت القوات الآشورية الزاحفة القضاء على دولتهم تباعاً. فبعد احتلالها أرفاد والقضاء على حكم بيت أجوشي (740ق.م), مركز المقاومة في سورية الشمالية, سنحت الفرصة للتحرك جنوباً, عندما طلب ملك يهوذا «فقح» نجدة الملك الآشوري لحمايته من مملكة آرام دمشق وغيرها (734ق.م) واستجاب تكلات بلاصر الثالث للطلب فاجتاح المقاطعات الست عشرة التابعة لدمشق مع مئات القرى والمدن وأعمل الخراب فيها. وقتل بنامو الثاني ملك شمأل (سمأل), الذي انضم إِلى قوات آشور, أمام أسوار دمشق وحوصر رصين الثاني آخر ملوك آرام دمشق (740-732ق.م) إِلى أن سقطت المدينة بعد مقاومة ضارية امتدت إِلى الغوطة. ولاقت السامرة في شمالي فلسطين مصير دمشق في سنة 722ق.م. ثم حماة في سنة 720 ق.م. وبعدها عسقلان الفلسطينية في سنة 711 ق.م. وهكذا انتهى دور الآراميين السياسي في التاريخ القديم وأعيد تنظيم البلاد إِدارياً بتقسيمها إِلى ولايات تابعة للسلطة المركزية في نينوى عاصمة آشور.

سقوط مملكة اشور

ولكن الآراميين وحلفاءهم من الكلدانيين تمكنوا من الاحتفاظ باستقلالهم مدة أطول في حوض دجلة الأدنى, إِذ استولى أمراء آراميون على عرش بابل ووقفوا في وجه الهجمات الآشورية مدة ربع قرن ومنهم نابو مكين زيري (731-729ق.م) ومردك أبلا إِدينا (721-705/703ق.م). وفي خضم هذا الصراع المرير سبى الآشوريون عشرات الألوف من السكان الآراميين الذين نقلوا معهم لغتهم وعقائدهم كما تعرضت بابل للتدمير والتخريب وقضت الحرائق على أهم معالمها القديمة وقصورها ولاسيما على يدي سنحريب ملك آشور, ثم إِبان النزاع بين الأخوين آشور بانيبال (668-627ق.م), وشمش شوم أوكين (668-648ق.م). ومع ذلك فإِن الآراميين لم يقروا بالهزيمة, فأعيد بناء بابل التي سرعان ما استأنفت تصدّيها لمطامع ملوك آشور, واستطاع الأمير الكلداني نابو بلاصّر أو نابو أبلا أصّر (625-605ق.م) أن يعلن نفسه ملكاً على بابل وأن يشن على آشور حرباً لا هوادة فيها متحالفاً مع أعدائها المحيطين بها من الشرق والشمال (الميديون والسكيثيون). وانتهت هذه الحرب بالقضاء على مملكة آشور قضاءً مبرماً (609ق.م). وقامت على أنقاضها الدولة البابلية الثانية الكلدانية (605-539ق.م) التي كان من العسير التفريق فيها بين الكلدانيين والآراميين والعرب إِضافة إِلى البابليين, فقد اختلط الجميع وتمازجوا بقوة وعمق في إِطار ثقافة مزدوجة بابلية - آرامية كانت اللغة الآرامية أهم عناصرها, وظل الأمر على هذا النحو إِلى أن انتقلت السيادة السياسية إِلى ملوك الأسرة الفارسية الأخمينية (539-332ق.م) الذين عرف المشرق القديم في أيامهم وحدة ثقافية لغوية ـ اقتصادية قامت على أكتاف الآراميين لم يشهد لها مثيل بهذا الاتساع من قبل . وبعد سقوط الأخمينيين على يد الاسكندر المقدوني وقيام الممالك الهلنستية (السلوقيون والبطالمة) طغت الثقافة الهلينية على بلاد المشرق. إِلا أن اللغة الآرامية ظلت على الرغم من هذه المؤثرات أهم عامل في وحدة المشرق العربي القديم حتى الفتح العربي الإِسلامي (القرن السابع الميلادي).

المصدر

انظر ايضا