الهلال الخصيب

الهلال الخصيب Fertile Crescent مصطلح جغرافي سياسي يقصد به تلك الأراضي التي تضم إقليمي بلاد الشام ووادي الرافدين والواقعة شرقي البحر المتوسط، ويحدها شرقاً إيران وشمالاً تركيا وجنوباً صحراء سيناء وبلاد الحجاز.

بعد انهيار الدولة العثمانية قامت في إقليم بلاد الشام عدة دول، وقعت تحت الانتدابين البريطاني والفرنسي. وهي: سورية السياسية بحدودها الحالية، لبنان، الأردن، فلسطين. أما وادي الرافدين فقد نشأت فيه دولة العراق.

كانت هذه المنطقة في عهد خضوعها للسلطنة العثمانية ولايات إدارية تابعة للسلطنة بحدود مفتوحة، يمارس فيها النشاط الاقتصادي والتحركات الاجتماعية دون أن يكون هناك حدود سياسية تفصل بينها، وكان الناس يتنقلون ببضائعهم بحرية بين الولايات وجميع أراضي السلطنة.

مشروع سياسي

ومصطلح الهلال الخصيب ـ الذي جرى تداوله ـ ينصرف إلى المشروع السياسي الذي اقترحه نوري السعيد رئيس وزراء العراق في الأربعينيّات من القرن العشرين؛ والذي ينطوي على إقامة اتحاد بين دول إقليم بلاد الشام والعراق. وقد أدى هذا المشروع دوراً محورياً في السياسات المحلية والإقليمية العربية، وسياسات القوى الدولية آنذاك؛ ولاسيّما في أربعينيات القرن الماضي وخمسينيّاته.

وفكرة هذا المشروع السياسي تعود في جذورها إلى خذلان الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين عام 1916؛ إذ كانت بريطانيا قد وعدت آنذاك الشريف الهاشمي وفق مراسلات (الحسين - مكماهون) بإقامة دولة عربية في بلاد الشام والعراق في حال قيامه بمساعدتها في تقويض السلطنة العثمانية.

لكن بريطانيا وفرنسا - وبموجب معاهدة سايكس - بيكو عام 1916- اتفقتا على توزيع الأقاليم العثمانية بين الأوربيين، وفي مؤتمر سان ريمو1920 نالت فرنسا حق الانتداب على سورية ولبنان، وأخذت بريطانيا حق الانتداب على العراق وفلسطين والأردن. ولذلك حين دخل الأمير فيصل بن الحسين إلى دمشق عام 1918، وأعلن نفسه ملكاً على سورية؛ سارع الفرنسيون إلى إدخال قواتهم واحتلال سورية عام 1920 وتقويض حكم الملك فيصل، فاحتضنته بريطانيا، وأعلنته ملكاً على العراق في العام 1921، وظل حلم العودة إلى دمشق يراود الملك فيصل وأبناءه.

على الجانب الآخر كان الأمير عبد الله بن الحسين يطمح أن يصبح ملكاً على العراق وفق مشروع الأسرة الهاشمية، وحينما انقلبت الأدوار ارتضى من البريطانيين إمارة شرقي الأردن، ولكن ظلت عيونه شاخصة إلى سورية الكبرى.

كان الشباب العربي القومي في كلا الإقليمين توّاقاً إلى تحرير الأمة العربية وأقاليمها من السلطنة العثمانية وتحقيق الاستقلال، ولذلك فقد آزر، وقاتل في صفوف الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين الذي تقوضت مملكته في الحجاز، وانهارت في العام 1924 على يد الأسرة السعودية. وحدث الفراق بين التيار القومي العربي والأسرة الهاشمية الممثلة بملكيها في العراق والأردن حين استعان الهاشميون بقوى الاحتلال البريطاني من أجل سحق ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق عام 1941.

بعد الحرب العالمية الثانية

كان قيام الحرب العالمية الثانية عام 1939 وانهيار فرنسا على يد النازية ـ لعبد الإله الوصي على عرش العراق ورئيس وزرائه نوري السعيد ـ فرصة تاريخية لإعادة إحياء مشروع الهلال الخصيب، وقد اقترح نوري السعيد على الحكومة البريطانية خطة على مرحلتين:

ـ توحيد سورية ولبنان والأردن وفلسطين في دولة واحدة (سورية الكبرى). أما شكل حكومتها ملكية أم جمهورية، وحدوية أم اتحادية فيجب أن يقرره الشعب بنفسه مع الإشارة خصوصاً إلى:

- منح الأقلية اليهودية في فلسطين استقلالاً ذاتيّاً بضمانات دولية.

- توفير الحمايات المناسبة للمسيحيين في لبنان.

ـ ترتبط سورية الكبرى بعد قيامها مع العراق في جامعة عربية تنضم إليها دول عربية أخرى وفق مشيئتها، وعلى رأس هذه الجامعة مجلس دائم يسمى أفراده الدول العربية الأعضاء، ويرأسه أحد الحكام العرب المنتخب بأسلوب ترضى به الدول المعنية، ويكون مسؤولاً عن الدفاع والشؤون الخارجية وأمور النقد والمواصلات.

كانت فرنسا تعدّ هذه المشروعات تحركات بريطانية، وتلاقي احتجاجاً من حكومة فرنسا الحرة بقيادة ديغول de Gaulle الذي يقول في مذكراته:

«في 14 آب/أغسطس 1941، كتبت إلى تشرشل Churchill احتجاجاً أقول فيه: أسفت لما لمست من أن الاتفاقات المعقودة بين الحكومة البريطانية واللجنة الفرنسية حول سورية ولبنان تتعرض للمساس بها. وإني لأجد نفسي مضطراً إلى مطالبتك بإعادة تركيز الاتفاقات التي عقدناها وتطبيقها في هذه البلاد». ويستطرد ديغول في مذكراته: «اجتمعت في القاهرة 7 آب/أغسطس 1942 مع تشرشل، وقال لي: جئت لأعيد تنظيم القيادة، وأرى في الوقت نفسه أين أصبحت منازعاتنا حول سورية»، وفي مكان آخر يقول: «استطعت أن ألمس أن إنكلترا تستمر بالتدخل بقضية سورية دون تورع».

على الجانب العربي كانت تحركات نوري السعيد والأسرة الهاشمية تلاقي معارضة شديدة ولاسيما من التيارات القومية العربية التي باتت تتوجس من نواياها وارتباطاتها الاستراتيجية مع الاستعمار البريطاني في المنطقة.

وأدّت القضية الفلسطينية ـ التي كانت تشهد صراعاً بين الفلسطينيين والعرب عبر ثوراتهم في الأعوام 1936-1939 وبين اليهود ـ دوراً في دفع السياسة المصرية نحو الاهتمام بالقضايا العربية واهتمام أحزابها بقضية بلاد الشام، وأفضت هذه السياسة فيما بعد إلى نشوء الجامعة العربية عام 1945؛ والتي عدّت رداً على طموحات نوري السعيد في مشروع الهلال الخصيب ومشروع سورية الكبرى الذي كان يعمل عليه الهاشميون في العراق والأردن. وقد أدّت السعودية دوراً رئيسياً بالتنسيق مع مصر في إحباط المشروعات الهاشمية التي كانت تكن لها العداء.

بعد حصول سورية على استقلالها السياسي في حدودها الحالية عام 1946 وجلاء القوات الفرنسية بقي مشروع الهلال الخصيب في السنوات اللاحقة يؤدّي دوراً محورياً في السياسة السورية؛ ولاسيما عبر بعض الزعامات السياسية التقليدية وبعض الأحزاب كحزب الشعب الذي كانت تدعمه بعض القوى الصناعية والاقتصادية المتمركزة في حلب؛ والتي كانت تعدّ أن لها مصلحة اقتصادية في الوحدة مع العراق، وكذلك الحزب القومي السوري الذي كان يلتقي هذا المشروع أيديولوجياً وعقائدياً بدعوته إلى وحدة سورية الكبرى.

في العام 1948 أعلنت دولة صهيونية في فلسطين، ورفضتها الدول العربية، وخاضت حرباً في فلسطين، انتهت بهزيمة الجيوش العربية وإعلان الهدنة على شتى الجبهات،وكان من نتائج الحرب غضب شعبي على الدور البريطاني والحكام العرب؛ ولاسيما الحكم الهاشمي في الأردن والعراق وحلفائهم في المنطقة، وأصبحت تحركات هذين النظامين موضع توجس وشبهة بسبب علاقاتهما مع البريطانيين.

كان يتجاذب سورية عبر قادة العمل السياسي تياران عربيان رئيسان؛ هما محور العراق - الأردن المدعوم بريطانياً من جهة، ومحور مصر والسعودية من جهة أخرى، وعبر هذا الصراع وأمور أخرى تتعلق بخطوط النفط واتفاقيات الهدنة حدث انقلاب حسني الزعيم في 30 آذار/مايو 1949. وفي نيسان/أبريل من العام نفسه أقر سير وليام سترانغ W.Strang الوكيل الدائم لوزارة الخارجية البريطانية المصادقة على موقف بريطاني عبّر عنه بقوله:

«إن قيام علاقات أوثق بين الدول العربية في الهلال الخصيب أمر لمصلحتنا على العموم؛ بيد أن علينا أن نكون في منتهى الحذر بالنظر إلى الشكوك الفرنسية والأمريكية وألا نوحي بأننا نرعى هذا المخطط».

اسباب سقوط مشروع الهلال الخصيب

ولكن انقلاب حسني الزعيم جاء عكس ما تمناه نوري السعيد والبريطانيون؛ حيث أعلن في 26 نيسان/أبريل 1949 وبعد زيارة إلى مصر: «إن الجمهورية السورية لا تريد سورية كبرى ولا هلالاً خصيباً، وسوف نوجه قواتنا ضد هذين المشروعين اللذين أوصى بهما الأجنبي».

في 14 آب/أغسطس 1949 قام الجيش بقيادة اللواء سامي الحناوي بالإطاحة بحكم حسني الزعيم وكان التأثير الفوري لهذا الانقلاب العودة إلى العلاقات مع العراق والأردن.

وعاد حزب الشعب إلى قيادة السياسة السورية، واندفع هؤلاء إلى العودة إلى التنسيق مع السياسة العراقية مجدداً، وانتعشت آمال عبد الإله الوصي على عرش العراق. لكن الجيش تحرك مجدداً بقيادة أديب الشيشكلي نائب رئيس الأركان في 19 كانون الأول/ديسمبر 1949 وبرئاسة فوزي سلو بذريعة الدفاع عن نظام الحكم الجمهوري في سورية. وإنقاذها من النفوذ البريطاني والوحدة مع العراق الملكي، حيث أعلن الشيشكلي قائلاً: «إن الجيش بالمرصاد لكل من تسول له نفسه فكرة الاتحاد مع العراق».

وفي أواخر تشرين الثاني/نوفمبر 1951 سيطر الشيشكلي على الحكم، وأعلن حل الأحزاب السياسية، وأقام دكتاتورية عسكرية لحكم البلاد، وعدّ ذلك إطاحة بكل الآمال في أي تقارب عراقي سوري. واستمر حكمه حتى العام 1954؛ إذ تمت الإطاحة به وعودة النظام «الديمقراطي البرلماني».

في هذه المرحلة كانت الولايات المتحدة قد عادت بقوة؛ لتؤدي دوراً رئيسياً في سياسات المنطقة على حساب تراجع النفوذ البريطاني، وبدأت مشروعات جديدة تلوح في الأفق، كحلف بغداد ومبدأ أيزنهاور بهدف احتواء المنطقة والهيمنة عليها عبر أنظمتها.

بعد قيام ثورة 1952 في مصر ودخولها في معارك ضد الاستعمار البريطاني؛ ولاسيما معركة الجلاء وتأميم شركة قناة السويس، وما تبعها من عدوان ثلاثي عليها في العام 1956 تأججت الروح القومية عند الشعب العربي في سورية، واتجهت الأحزاب القومية نحو اللقاء مع مصر وأولويته على أيّ محاور أخرى وقيام الجمهورية العربية المتحدة عام 1958 بين مصر وسورية.

ومنذ ذلك الوقت لم يعد لمشروع الهلال الخصيب في صورته الأصلية أي حضور في الساحة السياسية العربية؛ ولاسيما بعد قيام ثورة 14 تموز/يوليو 1958 في العراق والقضاء على الملكية وقيام النظام الجمهوري.

المصدر

انظر ايضا