اللغة الارامية
تاريخ اللغة
تنتمي الآرامية إِلى أسرة لغوية كبيرة عرفت في أوساط الباحثين باسم «اللغات السامية» وأقرب اللغات القديمة إِليها الكنعانية, وبينها وبين العربية عناصر مشتركة كثيرة في النطق والمفردات والتصريف.
وقد أظهرت الدراسات اللغوية المقارنة التي قام بها الباحثون الأوربيون تشابهاً في الأصوات والمفردات والتركيب والقواعد بين اللغات الآشورية والبابلية والكنعانية والآرامية والعبرية والعربية وغيرها من اللغات. وأول من استخدم اصطلاح «اللغات السامية» في ميدان علم اللغات المقارن في الغرب, هو عالم اللغات الألماني النمسوي شلوتزر (Schloetzer) (1781) وعنى به اللغات التي كانت معروفة آنذاك, وتتكلمها شعوب الشرق العربي في بلاد الشام والجزيرة وبلاد العرب, وهي العربية والعبرية والسريانية والكلدانية والحبشية, وتستند هذه التسمية إِلى اسم سام بن نوح الذي نسبت إِليه الشعوب التي بقيت بعد الطوفان بحسب رواية أسفار العهد القديم, إلاّ أن هذا التقسيم العرقي للشعوب ولغاتها واجه نقداً حاداً من باحثين كثيرين ولاسيما نولدكه ودياكونوف لأنه غير دقيق, ولا يتطابق مع الحقائق التاريخية, ولأن توزع اللغات وتفرعها يخضع لعوامل سياسية - ثقافية - جغرافية وليس لعوامل عرقية, ولأنه لا يمكن تجاهل ما بين مجموعة «اللغات السامية» ومجموعة «اللغات الحامية» من صلات, حتى إِن بعض الباحثين يفضل اسماً مشتركاً هو اللغات الحامية - السامية ومن هؤلاء مارسيل كوهين, ودياكونوف.
ومع توسع الدراسات اللغوية المتعلقة بلغات المشرق العربي القديم وثقافاته اتسع مدلول مصطلح «السامية» ليشمل لغات أخرى, من المجموعة اللغوية نفسها, اكتشفت مع التقدم في التنقيبات والبحوث الأثرية, وبدئ بدراستها منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر في المجامع العلمية والجامعات في بلاد الغرب (إِنكلترة وفرنسة وألمانية وايرلندة والدنمارك والسويد) قبل أن تنتقل هذه الدراسات إِلى الجامعات العربية, ومن هذه اللغات المصرية القديمة والأكدية والكنعانية - الآرامية والعربية الجنوبية وأخيراً الأغاريتية والإِبلوية. وقد أظهرت نتائج هذه الدراسات المقارنة بين هذه اللغات بلهجاتها المختلفة عناصر التشابه والتقارب الوثيق في بنيتها وفي كثير من مظاهر تطورها في المراحل المختلفة التي مرت بها في تاريخها الطويل وهذه العوامل جميعاً تدعو إِلى الاعتقاد, من دون إِغفال عاملي الزمان والمكان, بوجود أصل أوليّ يتمثل في لغة أم وُجدت في مكان ما من بلاد العرب ثم تفرعت عنها تلك اللغات.
ويمكن تبين موقع اللغة الآرامية وفروعها بين اللغات السامية, كما في النتائج التي توصلت إِليها أحدث الدراسات المقارنة, التي صنفتها في أربع فئات هي السامية الشمالية والسامية الشرقية والسامية الغربية والسامية الجنوبية. وتضم السامية الشمالية لهجات سورية والفرات القديمة ومنها كيش وماري وإِبلا (2500ق.م) وبعض شواهد الأغاريتية واليأدية (الشمأل), أما السامية الشرقية فتضم الأكدية: البابلية - الآشورية, وأما السامية الغربية فتضم الكنعانية والآرامية, وأما السامية الجنوبية فتضم العربية والعربية الشمالية القديمة والعربية الجنوبية (لغات اليمن) والحبشية.
وقد تأثرت اللغة الآرامية, باللغات السابقة التي انتشرت في البلاد قبل دخول الآراميين وانتشارهم بقرون, كالسومرية - الأكدية والكنعانية, وسعى الأمراء الآراميون بادئ الأمر إِلى اتخاذ هذه اللغات لغة كتابة في دواوينهم وقصورهم, حينما تبنوا ثقافة البلد الذي استقروا فيه, ففي سمأل مثلاً (القرن التاسع ق.م) صارت الآرامية لغة الديوان الملكي عندما كانت الكنعانية ما تزال لغة الحديث اليومي. ويدل على ذلك وجود كلمات كنعانية في النصوص الآرامية الرسمية.
وبعد استقرار الآراميين وتأسيس دولهم في سورية وبلاد الجزيرة والفرات على أنقاض الممالك والإِمارات الأمورية والحثية في القرنين الحادي عشر والعاشر ق.م. استخدم الكتّاب الآراميون الأبجدية الكنعانية, واستخدموا أربعة من الحروف الصوتية وهي الألف والهاء والواو والياء لكتابة الحركات. وانتقلت هذه الأبجدية الآرامية المؤلفة من اثنين وعشرين حرفاً بعد ذلك إِلى الشعوب الأخرى المعاصرة, وتم تبنيها في كتابة اللغات واللهجات السورية ـ الفلسطينية القديمة مثل العبرية والمؤابية والأدومية والفلستية (عسقلان وأسدود وغزّة) والعمونية. كما اقتحمت الآرامية مواقع اللغات واللهجات التي كانت سائدة في آشور وبابل وتداخلت باللغات المعاصرة كالأكدية, وكان الآراميون قادرين على نطق عدة حروف ساكنة كما يستخلص من النقوش, ولم يكن بعض هذه الحروف موجوداً في الكنعانية الفينيقية. وبقي الكتّاب الآراميون يستخدمون الحروف المستعارة بالتدريج وعلى نحو يتوافق مع مقتضيات النطق في اللغة الآرامية.
وتعود أقدم نماذج اللغة الآرامية المكتوبة إِلى القرنين العاشر والتاسع ق.م. وهي التي وجدت في تل حلف في الجزيرة. ولكن أقدم النصوص الملكية الآرامية المعروفة يعود إِلى النصف الثاني من القرن التاسع وإِلى القرن الثامن ق.م. وقد كتب أحد هذه النصوص وهو نقش كيلاموا ملك سمأل بالحروف الكنعانية الفينيقية, أما النص الآخر, وهو نقش «هدد يسعى» ملك غوزانا (تل حلف) وسيكان وأرزان فهو مزدوج اللغة والخط, فقد كتب بالخط الآشوري المسماري والآرامي الأبجدي, واكتشف في تل الفخيرية عند ينابيع الخابور, ويمكن إِرجاعه تقريباً إِلى ما بين عامي 850-825 ق.م. وهكذا تطور الحرف الآرامي الأبجدي مستقلاً عن الحرف الكنعاني كما ظهر الخط الآرامي المربع الذي انتشر فيما بعد على نطاق واسع, ولاسيما في العصر الفارسي, من آسيا الصغرى إِلى أفغانستان والسند.
انتشار اللغة
وإِذا لم يتمتع الآراميون باستقلال سياسي حقيقي إِلا نادراً لقوة الدول الطامعة المجاورة لهم, فإِنهم لم يتوانوا في بذل الجهد من أجل تطوير ثقافة قوية خاصة بهم طبعت الشرق القديم كله بطابعها. وأخذت لغة المغلوبين تحل بالتدريج محل لغة الظافرين. فبعد التوسع الآشوري في آرام النهرين (الجزيرة), وبعد سقوط مملكة بيت عديني أمام جيوش شلما نصر الثالث 855 ق.م أضحت اللغة الآرامية بكتابتها الأبجدية اللغة الثانية في الامبراطورية الآشورية.وبدءاً من النصف الأول من القرن الثامن ق.م, أخذت النصوص والنقوش الآرامية موقعها إِلى جانب النصوص الآشورية المسمارية لتبرهن على وجود كتّاب آراميين إِلى جانب الكتّاب الآشوريين في دواوين الدولة, حتى ليمكن القول إِن الامبراطورية الآشورية غدت امبراطورية آشورية ـ آرامية. وانتشرت اللغة الآرامية انتشاراً واسعاً بسبب سهولة نظام الكتابة الأبجدية, في حين أخذت اللغات الأكدية والآشورية البابلية, تميل إِلى التراجع بسبب صعوبة تعليم الكتابة المسمارية وتعلمها. وفي القرن الثامن ق.م, أخذت تتولد لهجات آرامية بتأثيرات محلّية. ولكن كانت توجد لغة آرامية عامة متداولة ومفهومة في أوساط الكتّاب والمتعلمين, ويدل عدد من النقوش الآرامية القديمة على أهمية اللغة الآرامية في القرن الثامن ق.م في عدد من الممالك الآرامية السورية مثل دمشق وحماة (نقش زكر ملك حماة ولعش) وسمأل, وأرفاد (نقوش سفيرة) وكان هذا العصر هو العصر الذهبي الأول للغة الآرامية القديمة. ولكن كل هذه الممالك أخضعت تباعاً لسيطرة آشور حتى سنة 612-610ق.م, وأدمجت في إِدارتها, وظل الأمر كذلك إِلى أن ورثت بابل تركة آشور التي انهارت أمام الاجتياح الميدي-البابلي. واستخدمت الآرامية في الدولة البابلية الكلدانية لغة للدواوين والمراسلات الدبلوماسية والمعاملات التجارية, حتى أضحت في النصف الأول من القرن السادس ق.م لغة دارجة في كل بلاد الرافدين إِضافة إِلى انتشارها في سورية وفي بعض المدن المصرية من ممفيس إِلى أسوان. وغدت الآرامية في العصر الفارسي الأخميني (539-331 ق.م) اللغة الرسمية المعمول بها من وادي النيل في مصر إِلى حوض السند في شمال الهند وأفغانستان, فكانت هذه الآرامية - الامبراطورية هي اللغة العامة لأرام كلها, أي لكل سورية وفلسطين والجزيرة وحوض الفرات, واللغة الرسمية الإِدارية الأولى في آخر امبراطوريات الشرق القديم قبل الاسكندر المقدوني. وإِلى هذا العصر تعود مئات لفائف البردي المكتوبة بالآرامية والتي عثر عليها في مصر (أسوان وهرموبوليس وممفيس). وبعد أن اجتاح الاسكندر أراضي الامبراطورية الفارسية وقضى عليها, واجه العالم الآرامي غزواً آخر تمثل بقدوم الهلينيين المستعمرين المستوطنين الذين أنشؤوا المدن ـ المستعمرات وجعلوها مراكز لنشر الحضارة الهلّينية في بلاد الشرق. وهكذا أخذت اللغة الآرامية منذ القرن الرابع ق.م تفقد تفوقها في ديارها, بعد أن غدت اللغة اليونانية الوافدة لغة رسمية في الدول الهلينية. إِلا أن الدول والمجتمعات المحلية التي كان يغلب عليها الطابع الآرامي في العالم الهليني أخذت تطور لهجاتها الآرامية المحلية في هذه الأوضاع السياسية ـ الثقافية الجديدة, مما أدى إِلى تفرع اللهجات الآرامية عن اللغة الآرامية الأم القديمة. وإِلى هذه المرحلة تعود أهم الآثار المكتوبة بالنبطية والآرامية الفلسطينية (التي حلت محل العبرية في التداول منذ القرن الثاني ق.م) والتدمرية والحضرية (لهجة مملكة الحضر «حطرا» في غربي الموصل), والسامرية التي كتبت بها أسفار موسى الخمسة, والسريانية. وقد تعدد تكون هذه اللهجات في العصر الروماني المتأخر. وفي حقبة لاحقة, أي في العصر البيزنطي, تطور الأدب الآرامي وقدم إِنتاجاً غزيراً بالآرامية - البابلية, وبالسامرية والمندعية (لغة الصابئة), ولاسيما بالسريانية وهي اللغة الآرامية التي تضم أقدم تراث مسيحي محلي, وهو تراث ثقافي ديني وعلماني بقي حياً ومتداولاً إِلى اليوم.
ومن الصعب أن يتفق الباحثون على تصنيف لفروع الآرامية وعلى الأسماء التي تطلق على هذه الفروع ولهجاتها لتعددها وتداخلها. ومن أهم اللهجات الآرامية تلك التي تكونت في فلسطين, فقد انتشرت الآرامية على نطاق واسع في مناطق الجليل وشمالي فلسطين منذ أواخر القرن الثامن ق.م عندما نقل الملوك الآشوريون سكاناً آراميين إِلى المدن الفلسطينية الشمالية, وتقدمت الآرامية على حساب اللغتين الكنعانية والعبرية لتصبح لغة دارجة في منطقة بيت المقدس, واقتصر استخدام العبرية على أحبار اليهود. ويشتمل العهد القديم على أجزاء كتبت بالآرامية في تلك المرحلة, منها: سفر إِريما, الإِصحاح 11:100 وسفر التكوين (الإِصحاح 47:31) وسفر عزرا, (الإِصحاحات 8:4 و6: 18و12:7و 26) وتتضمن الأجزاء التي كتبت بالآرامية من سفر عزرا وثائق مهمة عن وضع الطائفة اليهودية في العصر الفارسي الأخميني. أما الأجزاء الآرامية من سفر دانيال فهي الإِصحاح 4:2 والإِصحاح 28:7, وبما أن الآرامية التي وضعت بها أجزاء سفر دانيال المذكورة كتبت على لسان الكلدانيين فإنها صارت تسمى خطأً كلدانية, إِذ إِن اللغة التي تكلمها الكلدانيون أو البابليون بعد القرن السادس ق.م كانت لهجة من الأكدية وأصبحت الآرامية بعد العبرية اللغة التي استخدمت للتعبير عن الفكر الديني عند اليهود. ويعدّ التلمود (يعني كتاب التعليم أو التعاليم) أهم المؤلفات اليهودية المهمة بعد أسفار التوراة. ويضم التلمود الشرائع التقليدية المتواترة التي كانت متداولة بالروايات الشفهية, وهو يشرح ما ورد في أسفار العهد القديم من تشريع. وقد وضع النص بالعبرية وهو المشنة, أما الشرح (الجمارة) وهو التكملة فقد وضع بالآرامية. ويتفوق التلمود البابلي على التلمود الأورشليمي الذي وضع لاحقاً (القرن الرابع الميلادي). وإِلى جانب التوراة العبرية ظهرت ترجمة للأسفار بالآرامية (الترجوم الفلسطيني) والمدراش. وكان السيد المسيح يتكلم بالآرامية ويعظ الناس بها, وهي كذلك لغة الحواريين وتلاميذهم.
وقد أدى الفتح العربي في القرن السابع إِلى انتشار العربية على نطاق واسع في المناطق التي كان الناس فيها يتحدثون بالآرامية, فانحسرت اللهجات الآرامية الغربية في سورية وفلسطين. وبقي استعمال اللغة الآرامية للحديث في بعض قرى منطقة القلمون القريبة من دمشق (معلولا, جبعدين, بخعة «الصرخة»). ويعتز أبناء هذه المناطق بأنهم ما يزالون يتكلمون اللغة الآرامية التي تبقى, مهما دخل عليها من تأثيرات, لغة الناس على عهد السيد المسيح عليه السلام. وأضحت اللغة الآرامية السريانية أهم اللهجات المتفرعة عن الآرامية الأم بعد انتشار المسيحية. ومنذ ذلك العهد أخذت الآرامية الشرقية تفرض نفسها وتؤكد وجودها لغةً للآداب والدين بلهجات ثلاث هي: البابلية أو اليهودية البابلية وهي لغة التلمود, والمندعية وهي لغة الصابئة والسريانية التي انتشرت من مدينة الرّها (إِديسا) وكتب فيها الأدب السرياني المسيحي[ر.السريان] وقد كان للغة السريانية دور ثقافي كبير إِلى جانب اليونانية والفارسية قبل أن تتفوق عليها اللغة العربية منذ القرن السابع الميلادي, لكنها لم تمت بل بقيت حية حتى القرن الثالث عشر لغة أدب وثقافة دينية للكنيسة السريانية. وهي تستعمل اليوم في شعائر كثير من الكنائس الشرقية. وما تزال لغة الحديث والحياة اليومية للألوف من السوريين وفي منطقة الموصل في شمالي العراق وفي شرقي الأناضول وطور عابدين وعند بحيرة أورمية, كما أنها انتشرت مع انتشار السريان إِلى ساحل الملابار في الهند وإِلى أسترالية وبلاد المهجر في العالم الجديد.
الأدب الآرامي
لم تؤد التنقيبات الأثرية التي أجريت حتى اليوم إِلى العثور على آثار من الأدب الآرامي القديم إِلاّ في فلسطين ومصر, وليس في سورية أو الجزيرة العليا وهما قلب العالم الآرامي القديم. ولعل مرد ذلك إِلى عوامل مناخية لم تبق على شيء كثير من هذه الآداب القديمة لأن أكثرها كتب على لفائف من البردي أو على الجلد, وهي مواد لا تصمد لعوادي الزمن كالحجر. أما أهم ما بقي من التراث الأدبي الآرامي القديم, فيمكن تعرّفه من المواقع التالية:
نص دير عّلا (وادي الأردن)
أو نبوءة الكاهن بلعم بن بئور. مع ما يعتري النقوش على بعض جدران دير عّلا من شكوك في ارتباطها بالآرامية لغوياً, فهي على الأرجح نصوص بلهجة آرامية قديمة كتبت بالحبر الأحمر والأسود على الجدران المكسوة بالكلس. وإِن وضع النص المؤطر ومحتواه يدعوان إِلى التفكير بأنه نسخة عن نص أدبي كتب مبدئياً على ورقة أو ملف من البردي أو من الجلد. ويذكر استخدام الحبر الأحمر من أجل كتابة العنوان أو بعض مقاطع العرافة بأسلوب مشابه مألوف في النقوش المصرية القديمة. ولما كان هذا النقش قد أصيب بتلف شديد, فإِن محتواه يبقى عصياً على الإِيضاح, ويمكن أن يثير تفسيرات مختلفة. ومع ذلك فإِن البداية تتضمن حديثاً عن رؤيا تلقاها في الليل كاهن متنبئ يدعى بلعم بن بئور وفيها خبر سيء. وفي اليوم التالي نقل الكاهن متأثراً هذه الرؤيا إِلى الناس الذين يحيطون به... ولا يعرف شيء آخر من مضمون هذه الرؤيا.
نصوص فيلة في الصعيد
أو سيرة الحكيم أحيقار.
بين المخطوطات الكثيرة التي عثر عليها في جزيرة فيلة (وهي إِلفنتين) مقابل أسوان (سيين) يمكن تعرف عدد من النصوص الآرامية من عصر آرامية الامبراطورية. ومنها نصوص في الحكمة يتضح فيها الطابع المصري. أما أهم هذه النصوص فهي أمثال الحكيم أحيقار وقصته, وكانت هذه النصوص متداولة زمناً طويلاً في المدارس الآرامية في العصر الفارسي, وقد بقيت سيرة أحيقار أثراً شعبياً معروفاً في الشرق الأدنى القديم كله كما يتضح من الترجمات المأثورة في عدد من الآداب الشرقية, ولاسيما في الأدب السرياني. أما النواة الأساس في كتاب أحيقار فتتألف من مجموعة أمثال باللغة الآرامية الغربية من مصدر سوري قديم. وقد انتظمت هذه الأمثال في قصة تروي ما أصاب أحيقار من سعد ومن نحس, وهو «الحكيم البارع مستشار آشور كلها, وحامل أختام سنحريب ملك آشور».
وبقي اسم أحيقار مشهوراً في عصور لاحقة, لأنه يرد في لوح مسماري من العصر الهلنستي أدرجت فيه قائمة بأسماء عدد من المشهورين وفيهم أخوقار وهو أحيقار المذكور هنا على الأرجح. وقد عاش في مطلع القرن السابع ق.م. في البلاط الآشوري. أما النسخة الأخرى لسيرة هذا الحكيم الآرامي فكتبت بلغة آرامية وبلهجة شرقية رافدية, وكان هدفها ترسيخ قيم الشرف والأمانة والإِخلاص لتربية أجيال من الكتّاب والموظفين الذين كانوا يعدّون للعمل في خدمة الدولة في آشور وبابل وفارس .
نقش بهيستون بالآرامية
أو تعاليم الملك داريوس.
ويتضمن هذا النقش نصاً تعليمياً لتأهيل الموظفين, وهو في الأصل نقش ملكي حُوّل إِلى نص مدرسي. وهذه وسيلة من الوسائل التي كانت تتبع لترسيخ الفكرة الملكية والإِخلاص في رؤوس أولئك الذين يعدّون للعمل في الدواوين في أنحاء الامبراطورية. يعود هذا الأثر إِلى الأيام الأولى من حكم العاهل الفارسي داريوس الأول (522/521 ق.م). وهو النسخة الآرامية من نقش تاريخي أعدّ بالخط المسماري وبلغات مختلفة كانت معروفة في بلاد الامبراطورية, هي الفارسية والعيلامية والبابلية, ليعمم ويعلن في مختلف الأصقاع.
ويمكن تأريخ النص الآرامي لنقش بهيستون في الربع الأخير من القرن الخامس ق.م أي بعد قرن تقريباً من اعتلاء داريوس الأول العرش, وهو يؤكد إِضافة إِلى ملاحظات أخرى, استخدام النص الآرامي في تعليم سيرة الملك ومآثره في مدارس الامبراطورية الفارسية وفي تربية أتباعه على الولاء له.
وقد كتب النص الآرامي لنقش بهيستون على ملف بردي طوله نحو ثلاثة أمتار, ويتألف من 190 سطراً, وفيه رواية لأخبار الحملات الأولى التي قام بها داريوس الأول لتوطيد أركان عرشه وقمع عدد من الثورات. وتتضمن الخاتمة وصايا وتعاليم أخلاقية موجهة إِلى من يتولى الحكم بعده, وفيها تحذير من الكذب والكذابين ودعوة إِلى الصدق وقول الحق, وتبشير بمباركة الإِله أهورا مزدا للصادقين ولأبنائهم من بعدهم.
نصوص قمران
أو مخطوطات البحر الميت الآرامية.
وهي مخطوطات كتبت بالآرامية والعبرية عثر على عدد كبير منها في مغاور قريبة من البحر الميت في فلسطين (1947) وقد أدى العثور عليها إِلى كشف النقاب عن نصوص آرامية مهمة يمكن تعرف مضمونها بمقارنتها بنصوص موازية في لغات شرقية أخرى معاصرة. ويبدو لأول وهلة أن معظم هذه النصوص الآرامية كتب ما بين القرنين الثالث والثاني ق.م. ومن أهم هذه النصوص أربع مخطوطات من سفر طوبيا. وليس من شك لدى الباحثين اليوم في أن هذا السفر كان قد كتب, أول الأمر باللغة الآرامية, ومن المحتمل أن ذلك كان ما بين القرنين الرابع والثالث ق.م بتأثير قصة أحيقار التي يفترض أن كاتب السفر قد عرفها. وهناك أيضاً سفر أخنوخ, الذي يضم الكتاب السماوي وكتاب الحرّاس وكتاب الأمثال وكتاب الحكماء ورسالة أخنوخ ويمكن أن يضاف إِليها كتاب العمالقة. وقبل كشف مخطوطات البحر الميت كان سفر أخنوخ معروفاً بفضل الترجمة الحبشية, ولكن بعد العثور على إِحدى عشرة نسخة مخطوطة بالآرامية من هذا السفر في المغارة رقم 4 في موقع قمران, غدا من الواضح أن الآرامية كانت اللغة الأصلية للنص.
وإِضافة إِلى هذه النصوص الكبيرة, عثر على نصوص أدبية متنوعة من مصادر مختلفة مثل نص صلاة نابونيد, ونص مزيّف عن التكوين من الممكن أن يعود إِلى القرن الثاني أو الأول ق.م. وكذلك ترجوم سفر أيوب. واستخدمت اللغة الآرامية إِلى جانب اللغة المصرية الديموطيقية في كتابة بعض النصوص. ويوجد نص سحري مزدوج اللغة كتب بالمسمارية البابلية وبالآرامية ويعرف بنص أوروك (الوركاء), وكان أول من قرأه وترجمه فرانسوا ثورو ـ دانجان, ثم نشره أندره دوبون ـ سومر.
وينبغي القول أن يوسيفوس, المؤرخ اليهودي الروماني, كتب كتابه في التاريخ أولاً بالآرامية في سنة 75م, ولكن النص اليوناني هو الذي وصل إِلى أيدي الباحثين. وهكذا يتضح كيف تطورت اللغة الآرامية من لغة جماعات بدوية إِلى لغة للإِدارة والتجارة والآداب, وغدت في مرحلة من التاريخ لغة عالمية.
الحضارة الآرامية
الدين
يضم مجمع الأرباب عند الآراميين آلهة من كنعان وبابل وآشور, إِضافة إِلى آلهتهم الخاصة بهم. وللإِله عند الآراميين اسم عام هو بعْل بمعنى سيّد, ويدعونه أحياناً بعل شميين (رب السموات) كما في نص «زكر» ملك حماة ولعش , الذي توجه إِلى الإِله في نصب تذكاري شاكراً له ما أولاه إِياه من الحماية والتأييد بالظفر والنصر. وعبدت إِلى جانب بعل الربة الأنثى «بعلت» التي كانت تدعى ملكة شميين (ملكة السموات) ولبعض المناطق والمدن بعلها الخاص بها كبعل حمون (بعل الأمانوس) وبعل البقاع (بعلبك). واتخذ الآراميون هدد إِلهاً للطقس, يرسل الأمطار فيخصب الأرض وينبت الزرع ويسبب الكوارث عندما تنحدر السيول من الجبال إِلى الوديان. وكان مقر بعل حمون في الجبل الأقرع (كاسيوس) الذي كان له في حضارة سورية القديمة ما لجبل الأولمب عند اليونان في تاريخهم القديم. وكانوا يعتقدون أن الزوابع والرعود والبرق من الظواهر التي تدل على هدد الذي كان يطلق عليه في بعض اللهجات اسم أدد أو أدّو ويدعى أيضاً رمّون: الراعد, وفي سفر الملوك الثاني (18:5) يدعى ملك دمشق بهذا اللقب. وبتأثير الحوريين أدمج هدد برب العاصفة عند الحوريين تيشوب ورشف عند الحثيين. وكما تدل الشواهد الفنية يبدو هدد في نحت بارز من سمأل الواقعة في أعالي الأمانوس, في صورة رجل محارب حاملاً الشوكة الثلاثية والمطرقة رمز البرق والرعد. وفي ملاطية يبدو واقفاً على ظهر ثور.
وأهم معابد هدد في دمشق وحلب ومنبج (هيرابوليس) وبعلبك (هليوبوليس). وفي العصر الروماني عبد هدد في بعض المعابد بتأثير الثقافة الكلاسيكية اليونانية ـ الرومانية باسم جوبيتر, وعرف في دمشق باسم جوبيتير الدمشقي. وفي منبج عبدت الربة السورية «أثارغاتيس» إِلى جانب هدد, وكانت هذه الربة صورة مطبوعة بالهلينية لعشتارت وعنات, وكانت تدعى أيضاً «بنيت» أي ربة الذرية والنبوة وقد حمل الآراميون عبادتها من جبل سمعان وجبل بركات إِلى وادي النيل في مصر, ووصف الكاتب السوري لوقيانوس السميساطي (125-192م), الذي كتب باليونانية, معبدها في منبج في كتابه عن الآلهة السورية.
واختلطت عبادات الآراميين بعبادة آلهة أخرى عند جيرانهم, مثل «إِل» الكنعاني الذي كان يعد أباً لكل الآلهة, وأقاموا لهم بيوت العبادة حيثما حلوا, و«سن» إِله القمر عند الرافديين ويدعى بالآرامية «شهر», و«نابو» رب الحكمة في بابل الذي حملوا عبادته حتى أسوان, و«شمش» إِله الحق والعدل في آشور وبابل. وعلى الرغم من قلة المصادر عن شعائر العبادة فإِنه من المؤكد أن الحياة الدينية لم تشغل الآراميين كما شغلت المصريين القدماء, إِلا أنهم كانوا يرغبون في كسب مرضاة الآلهة من دون أن يكون لديهم تصور واضح عن العامل الآخر.
لكن نصوص باناموا (من شمأل) تذكر الطعام والشراب مع هدد بعد الموت, وكان للسحرة مكان بارز بين الكهنة كما تشير نصوص سفيرة.
الفن
لم يعثر إِلا على عدد قليل من الآثار التي تصلح شواهد على الفن الآرامي. فقد شجع أمراء بيت بخياني في الجزيرة وسمأل في كيليكية والأمانوس فناً تشكيلياً سوريا متأثراً بالفن الحوري ـ الحثي. ومن المؤكد أن السوريين في هذه المنطقة الشمالية من البلاد كانوا يرتدون ملابس كملابس الحوريين الميتانيين والحثيين, وقد انعكس ذلك على الفن التشكيلي, ومع ذلك فإِن الفنانين الآشوريين الذي زينوا القصر الآشوري في تل برسيب (تل أحمر) صوروا الآراميين على شاكلة البدو. كما صوروا آراميي بابل ملتحين ويرتدون مآزر قصيرة ويضعون عمائم على رؤوسهم, أما النساء فكنّ يرتدين أثواباً طويلة. وهكذا فإِن الفن التشكيلي, التصوير والنحت, عكس البيئات المختلفة للمجتمعات الآرامية.
وتبدو الخصوصية في الفن الآرامي في العمارة, فالقصور تتصف بالغرف الواسعة, وتؤدي إِليها أبهاء تحمل أسقفها أعمدة منقوشة ومزينة بالنحت الجميل ولها شرفات واسعة من نموذج حيلاني, كما في تل حلف وعين دارة. ويبرز تطور فن العمارة في الأبواب وإِكساء الجدران. وفي بناء العتبات بالحجر البازلتي. أما التماثيل الكاملة المكتشفة فقليلة, وأهم المنحوتات عثر عليها في القبور الملكية في تل حلف وسمأل. أما التصوير فإِن الرسوم الجدارية تمثل مشاهد من الحروب والصيد والرحلات النهرية والبحرية وموضوعات ميثولوجية. وفي رسوم عن الطبيعة تختلط صورة الإِنسان بمخلوقات أخرى كما في الإِنسان ـ العقرب (من تل حلف). وتبدو التأثيرات المصرية في أسلوب مسلّة برهدد التي نذرها للإِله ملقرت (من القرن التاسع ق.م).
وبرع الآراميون كالكنعانيين في الفنون الصغيرة كصناعة الملابس الصوفية والكتانية والقطنية الجميلة, والأثاث الخشبي والجلود, وأدوات الكتابة, وفي صناعة الحليّ من الفضة والذهب والحفر على المعادن والعاج, وقد عثر على نماذج من العاج في أرسلان طاش (حداتو في شمالي سورية), هي موجودة اليوم في متحف اللوفر. واشتهرت بعض المدن السورية القديمة منذ عصر أغاريت وإِبلا وحماة وكركميش بالحفر على عاج الفيل الذي كانت قطعانه تعيش في سورية الشمالية في غاب العاصي حتى أواخر الألف الأول ق.م وقد صنع منه الحرفيون المهرة الأختام التي نقش عليها صور من الحياة اليومية والدينية والتماثيل والعلب والأمشاط واللوحات التزيينية واستخدموه لتطعيم الخشب كالموزاييك.
التجارة والتجار
للتجارة في سورية القديمة ماض عريق يرقى إِلى إِبلا وأغاريت وماري. ولكن التجارة بلغت ذروة مجدها في العصر الآرامي. وكان التجار الآراميون يبعثون قوافلهم إِلى جميع بلاد المشرق القديم لتصل إِلى منابع دجلة والفرات شمالاً وإِلى مصر والحجاز جنوباً. واكتشف في العاصمة الآشورية نينوى بعض الأوزان البرونزية التي خلّفوها. واحتكر الآراميون التجارة الداخلية في البلاد, كما سيطر الكنعانيون على التجارة البحرية في المتوسط والبحر الأحمر. ومن دمشق حاضرة البلاد السورية كانت تنطلق قوافل كبيرة باتجاهات مختلفة. وعمل ملوك آرام ولاسيما حزائيل على فتح طرق التجارة مع مدن فلسطين ومصر وشبه الجزيرة العربية.
واحتل التجار الآراميون مكاناً مهماً في البنية الاقتصادية للامبراطورية الفارسية الأخمينية فيما بين القرنين السادس والرابع ق.م فحملوا الأرجوان من مدن الساحل الكنعاني (الفينيقي) وتاجروا بالأقمشة المطرزة والكتان والحجر الكريم واليشب, وجلبوا النحاس من قبرص, وخشب الأبنوس من إِفريقية واللؤلؤ من الخليج, ونقلوا العطور والعقاقير والزيوت والتمور والثمار المجففة, واتصلوا في رحلاتهم ببلاد بعيدة استوردوا منها التوابل والبخور. وكان يرافق التجار في رحلاتهم المسافرون والمغامرون. وهكذا تحركت في عالم الشرق العربي أسر وتنقلت جاليات حاملة معها معتقداتها وثقافاتها وعاداتها ولغاتها وهو ما أدى إِلى تفاعل بين أقطار المشرق العربي القديم وثقافاته.
المصدر