مدينة الصدر

أربعة أسماء لمدينة واحدة. أربعة عهود مضطربة حملت الأجيال المتوالدة مراراتها الكبيرة. وأربع شخصيات سياسية ودينية، وزمن قاسٍ امتد الى نصف قرن، تباين بين تيارات السياسة من يسارها الى يمينها. لكن المدينة بقيت واحدة.

«مدينة الثورة» ارتبطت بالزعيم عبد الكريم قاسم. فهو مؤسسها وبانيها. و«حي الرافدين» ارتبط بالرئيس عبد الرحمن عارف عام 1966، الذي أراد قطع الصلة مع الماضي، وتبديد المشاعر الثورية التي انتهجها سلفه، في محاولة لإجبار المجتمع البغدادي المتشكل عبر هذه الجماعات على نسيان مأثرة بناء المدينة. غير أن حزب البعث أرجع الإسم القديم إليها بعد ثورة تموز 1968، وهو «الثورة»، لتجييره لصالح الثورة البعثية التي قضت على النظام العارفي. ثم سميت «مدينة صدام»، حيث ارتبطت بصدام حسين أثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي، الذي زارها لتكريم شهدائها في تلك الحرب، وما أكثرهم، حيث انتشر ابناء المدينة في الجيش، جنوداً وضباطاً. وأخيراً «مدينة الصدر» التي ارتبط اسمها بالصدرين الاول والثاني (المرجع العلامة محمد باقر، ووالد مقتدى محمد صادق) بعد احتلال العراق في التاسع من نيسان عام 2003. وكل هذه التسميات لمدينة واحدة تقع شرق بغداد، وهي أكبر مدينة عراقية بتجمعها السكاني، وتشكل ما نسبته 18 في المئة من سكان المحافظة.

إسكان فقراء الجنوب النازحين

بعد ثورة 1958، أسس عبد الكريم قاسم مدينة «الثورة»، لتوطين الفقراء النازحين الى محافظة بغداد من جنوب العراق ووسطه، كالعمارة وواسط. وهؤلاء كانوا يتجمعون في حي عشوائي عرف بـ«خلف السدة»، نسبة الى موقعه الجغرافي. ثم نزح إليها البعض من أهالي البصرة والناصرية هرباً من جور الإقطاع وفقر الحال وضغط الحياة. وهم أكثرية شيعية. وبعد الاحتلال الأميركي للعراق، عام 2003، برزت هذه المدينة كقوة سكانية مهمة لجهة التأثير الانتخابي والولاء الطائفي، كما كانت ولا تزال تحتضن قوة ميليشياوية مسلحة دخلت ثلاث معارك باسم «جيش المهدي» مع القوات الأميركية بقيادة مقتدى الصدر، الذي تنتمي هذه الجماعات الى فكر والده.

يرى بعض المراقبين أن مدينة الثورة التي أنشأها عبد الكريم قاسم كانت إحدى أخطائه الاجتماعية والديموغرافية التي غيرت وجه العاصمة بغداد كلياً، حيث آوت الطبقات المسحوقة من الفلاحين والعاطلين عن العمل، وخاصة من أهالي مدينة «العمارة» في أقصى الجنوب الشرقي على تخوم الاهوار، الذين كانوا يعيشون على هامش الحياة في بيوت من القصب ويعانون من شظف العيش. وأنها صارت مصدر قلق للعاصمة الموصوفة بالجمال والحياة المتطامنة، إذ نزح إليها هؤلاء بهجرة ريفية غير محسوبة، مع حيواناتهم كالجواميس والأبقار والأغنام والحمير، وافترشوا أرصفتها وشوارعها وعملوا في الأعمال الكادحة كلها، وكانت أغلبيتهم الساحقة غير متعلمة، بسبب ظروف اجتماعية قهرية سادت في جنوب العراق ووسطه مع شيوع الإقطاع في خمسينيات القرن الماضي وقلة فرص العمل والتعليم. ومع استقرارهم النسبي وتكيفهم في أجواء المدينة، انتظم شبابهم ورجالهم في سلكي الشرطة والجيش، وشكلوا قاعدتهما العريضة. وهناك من اتخذ الأعمال الحرة الصغيرة في الأسواق الشعبية وسيلة عيش مباشرة. ومع افتتاح مدارس كثيرة في المدينة لكلا الجنسين، أمست القاعدة المتعلمة، مع مرور الوقت، هي التي تحرك المشهد الثقافي والأدبي والسياسي بل وحتى الرياضي. وبرزت كأحدى المدن التي ترفد المشهد الثقافي بأسماء لامعة في المجالات الإبداعية كافة.

نساء المدينة

ساهمت المرأة الجنوبية في مهن سريعة، في حركة يومية دؤوب، وعلى مدار سنوات طويلة بل عقود، كبيع القيمر (القشطة) والخبز البيتي والبيض والجبن والحليب والخضروات، حتى باتت تسمية هذه الجماعات بـ «الشروكية» (نسبة الى شرق البلاد) أو «المعْدان» هي للتقليل من قيمتهم الاجتماعية والاعتبارية والمعنوية، باعتبار أن المجتمع البغدادي كان متحضراً في تشكيلته الوظيفية. لكن العاصمة ظلت تستقبل الوافدين إليها من الجنوب والوسط، وأصبحت هي الحاضنة الرئيسية، كمؤسسة كبيرة توفرت فيها فرص التجارة والتعليم والعمل. وتحول سكان المدن المهمشة هؤلاء الى نازحين رسميين يزاولون مهنهم الحرة وإن كانت متدنية. غير أن المكسب الأساسي الذي توفر لهذه الطبقات الفقيرة هو فرص التعليم. و بمرور السنوات، صارت السياسة هاجساً ضمنيا، بسبب انتشارهم في مؤسسات الدولة ومرافقها المختلفة، مع نهضة الحركات الوطنية وشيوع التحزب بوجهيه القومي والشيوعي. كانت بغداد في خمسينيات القرن الماضي ذات توسع عمراني أفقي، وهي كذلك الى يومنا هذا. لذلك كانت مع كل العهود السياسية تتمدد عرضيا وتلتهم المناطق الخضراء، وبعض الأمكنة التي كانت تشكل بؤراً سكنية أو فسحاً مكانية ضرورية كلما استجد النزوح من الريف الى المدينة.

مخطط المدينة

صمم مكتب مخطط المدن اليوناني الشهير قسطنطينوس دوكاسيادس مشروع «مدينة الثورة» بعد 1958. وكان نموذجه العمراني يتمثل في تصاميم لمساكن جاهزة وأحياء متكررة لاستيعاب النمو المتزايد من النازحين الفقراء والفلاحين إلى بغداد، والذين كانوا قد شكلوا حولها حزام بؤس. ولكن التخطيط ذاك كان يتبع نمطاً شائعاً في الغرب وقتها، وظيفته الاسكان، من دون الانشغال بروح المكان، مرتضياً إنشاء أشكال من «الغيتوات» المعزولة، إن لم يكن المخطِط لها. وقد أحيطت المدينة الجديدة بمنظومة طرق وشوارع ضيقة ومغلقة وملحقة بمرافق عامة شديدة التواضع. وتمثل مساحة البيت الواحد بمقابل عدد أفراده صورة قاتمة في بعدها السيكولوجي والاعتباري.

تقسم مدينة الصدر إلى قطاعات أو مربعات، مساحة الواحد منها حوالي (500م * 500م). وهي تتضمن 79 قطاعا متساوياً ولا يختلف تصميمها إلا في الجزئيات. ويحوي كل قطاع على مسجد واحد على الأقل، في حين لا تتجاوز مساحة كل بيت 140 متراً. وبعد 2003، تكون مربع آخر سمي بقطاع «صفر»، وأغلب بيوته غير قانونية، وكانت تسمى سابقا بالصيانة. غالبية سكان مدينة الصدر من الشيعة (بما نسبته 90 في المئة) يضاف لهم 10 في المئة من الأكراد الفيلية (الشيعة) والسنّة والمسيحيين معا، يشغلون القطاعات 10 و11 و12 و 17، وتسمى هذه القطاعات بـ«حي الأكراد».

يبلغ عدد سكان المدينة حسب احصائية موقع محافظة بغداد أكثر قليلا من مليون وربع المليون نسمة. لكن بسبب تلكؤ الجرد السكاني العام منذ 2003 وحتى اليوم، لأسباب طائفية وعرقية وسياسية، تظل هذه النسبة السكانية قاصرة عن إعطاء الرقم الحقيقي لعدد السكان الذي، بحسب تقديرات شتى، بما فيها تلك النيابية، يصل الى مليوني نسمة، وهو الرقم التقريبي المقبول في الوقت الحاضر، إذا ما علمنا أن العائلة الواحدة في هذه المدينة هي عبارة عن ثلاث عوائل، تسكن البيت ذاته وتبني فيه مشتملات صغيرة بمساحات أقل، توفيراً للمال، وإبقاءً للعوائل في أمكنة ثابتة لحس عشائري، ولمواجهة احتمالات الحياة. وهكذا أصبح كل قطاع ثلاث قطاعات تقريباً. ربما تكون النسبة السكانية أكبر من الأرقام التي اشرنا إليها، إذا فهمنا أن مدينة الصدر المتوسعة دائما ضمت الى جنبها أحياء فقيرة، أوجدتها هي أيضا الظروف الاجتماعية، كأحياء «سبع قصور» و«حي التنك» و«الأورفلي»، بينما زحف إليها نصف «حي أور» الكبير، وأجزاء كبيرة أيضاً من مدينة «الشعب» المتاخمة، وأحياء «شارع فلسطين» و«الحبيبية» و«البلديات»... التي اقتربت من مناخ هذه المدينة، لا سيما بعد عام 2003 .

ولاء المدينة

من الواضح أن التركيز على هذه الـ«الشيعية» له أكثر من دلالة. وهناك ميل شائع لقراءة الماضي في ضوء الحاضر، ولإيجاد أسباب كانت «خفية» قبل ذلك. وهذا جزء من فكر «المؤامرة» قوي الرسوخ في الوجدان العام. فإنشاء هذه المدينة من قبل عبد الكريم قاسم، الشيعي من جهة أمه، يتم تأويله اليوم كـ«مسمار جحا» يدق «الإسفين الشيعي في الوسط السني البغدادي»، كما تقول بعض القيادات السنية التي حكمت العراق منذ تأسيسه. وفي الواقع الراهن، فإن مدينة «الثورة» هي إحدى أهم القلاع الشيعية التي يحسب لها الحساب، وإن كانت الى وقت قريب بلا قيادة مركزية واعتبارية. وكان عبدالكريم قاسم يحظى بشعبية عند أهالي مدينة الثورة ـ الصدر، فهو الذي يسر لهم تحقيق حلم الهجرة من الريف الى المدينة وانتشلهم من واقع الإقطاع المزري. لذلك هبوا لنجدته حينما حوصر في وزارة الدفاع عام 1963، فزحفوا جماعات، سيراً وركضاً على الأقدام من مدينتهم وحتى مبنى الوزارة، وهم يحملون بأيديهم السكاكين والعصي و«المكاوير». ولكنهم فعلوا تحت راية شعارات شيوعية، ووطنية عراقية، لا يمكن بحال اعتبارها مجرد تمويه لانتماء آخر يبدو اليوم طاغيا. وقد حاول صدام حسين انتزاع ولاء «مدينة الثورة» بطرق قاسية، لاسيما أثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية، غير أنه فشل. وهو حاول أكثر من مرة تهجير أهالي المدينة الى مناطق صحراوية تنأى بهم عن العاصمة، بدعاوى شتى ليس أقلها وجود آبار نفط ثمينة في موقعهم. وهو وصَف المدينة في احد اجتماعاته بـ«السكين التي تنبت بالخاصرة».

التشابه بين التيار الصدري ومدينته

مدينة الثورة تعتبر اليوم قلعة للتيار الصدري، موفرة له قاعدة الارتكاز الاجتماعية والحاضنة الشعبية. ويتألف هذا التيار من الشرائح الاكثر شباباً والاكثر بؤساً ضمن الكتلة السكانية الشيعية هائلة العدد. وفيه السادة والشيوخ الشبان، والدعاة، والشابات اللواتي يقتحمن المجال العام انطلاقاً من هذا الموقع، كما فيه حتماً اشقياء. والتيار أيضاً هو الاكثر تمرداً على الانتظام المرجعي القائم في الوسط الشيعي، وهو وسط متنوع اجتماعياً وجغرافياً. فلا يتعرف الصدري على نفسه في البرجوازية الشيعية التقليدية، التي أعادت توظيف وجودها القديم بشكل جديد، والتي مثّلها في زمن ما بعد الاحتلال الاميركي، وفي وقت من أوقاته، أحمد الجلبي، بينما حاول عادل عبد المهدي استعادة مكانته الاقطاعية، كما سعد صالح جبر... وكل ذلك على سبيل المثال. وهؤلاء هم ابناء نواب ووزراء وتجار واقطاعيين من العهد الملكي. يتمرد الصدريون، ومعهم أباء المدينة، على المستويين الديني والسياسي الضابطين كلاهما «للشيعة»، فيقاتلون القوات الأميركية حين ترضى سائر التشكيلات السياسية بهم كـ«محررين» أو على الاقل كأدوات للتخلص من نظام صدام حسين، ويتسببون كذلك بأرق مستمر للنفوذ الايراني. ويعكس التيار الصدري كل ذلك بانتهاج قدر عالٍ من استقلالية القرار، وإن بدا أحيانا متقلباً. وابناؤه خاضوا مقاتَلات مذهبية مرعبة مع «السنة»، ولكنهم في الوقت نفسه الاكثر استعداداً لمد اليد الى الفلوجة المحاصرة عام 2004 والى الأنبار اليوم. والتيار يمثل كتلة كبيرة ومقررة في البرلمان، ولكنه يعلن تكراراً رفض «العملية السياسية» المؤسسة أميركياً. وفي كل هذا، يثير التيار ذاك، الاشكاليات الاكثر حدة في الحياة السياسية العراقية. وهو يشبه مدينته مترامية الاطراف، والمزدحمة والفوضوية، والفقيرة ولكن... الراسخة!

المصدر