عبد الرزاق الحسني

ولد في سوق العطارين "الشورجة" ببغداد سنة 1321 هــ (1903م) من اب وأم عراقيين وعائلة تقرض الشعر، وتتعاطى الأدب, وكان والده يمتهن العطارة في سوق العطارين وقد تعلم مبادئ القراءة والخط في جامع الخفاقين وفي عام 1908 تأسست مدرسة أهلية باسم (مكتب الترقي الجعفري) فالتحق بها وقد شرعت في تعلم اللغة التركية واللغة الفرنسية الى جانب اللغة العربية ولما أعلنت الحرب العالمية الأولى عام 1333 هـ (1914م) تعثرت الدراسة في معظم المدارس الحكومية والأهلية بسبب التحاق أساتذتها بالجندية، وطبيعيا تعثرت الدراسة في مدرسته فانتقل بهم احد الأساتذة من بناية المدرسة في سوق الغزل الى جامع الحاج داود في محلة الهيتاويين، ولما احتل الجيش البريطاني بغداد في فجر 15 جمادي الاول 1335 هــ (11اذار 1917 ) انتظمت الدراسة من جديد وأبدل اسم مدرسته الى اسم (المدرسة الجعفرية ) وجيء لهم بأساتذة أفاضل تخلوا عن الجيش العثماني المنسحب ومنهم الحاج كمال والد لضباط صبيح الحاج كمال وعبد الستار الشيخلي والد الوزير السابق عبد الكريم الشيخلي وعلي مظلوم والد المهندس مدحت علي مظلوم إضافة الى الأساتذة زكي الخياط وجعفر حمندي ومحمد حسن كبة وعبد المجيد لاوي وعباس مهدي وعلي البازركان وغيرهم.. وعندما نشبت ثورة العشرين 1920 اضطر والده البقاء في مدينة النجف الاشرف وألحقه أستاذه علي مظلوم بعد ان أصبح قائم مقام النجف الى مدرسة الأميرية فيها

كتـــــــاباته

بعد ان هدأت الأوضاع عاد الى بغداد ليقبل في الصف الثاني في دار المعلمين ومن يومها ولع بالكتابة والنشر وما زال طالبا فيها فكان يقتني الجرائد اليومية والمجلات الدورية ويقتبس منها بعض الكلمات والعبارات الملائمة لينشئ خبرا محليا أو نتفة أدبية او قطعة شعرية وكانت جريدة "المفيد" لصاحبها المرحوم إبراهيم حلمي العمر تنشر له هذه الأخبار والنتف تلطفا منها وتشجيعا وما لبت ان وضعت رسالة موجزة بعنوان: (المعلومات المدنية لطلاب المدارس العراقية) استعان بما يتيسر لديه من الكتب المدرسية المشابهة

وكان لأستاذ التاريخ في "دار المعلمين" العالم الاثاري المغفور له عبد اللطيف الفلاحي مطبعة معروفة في بغداد اسمها (مطبعة الفلاح) فراجعه لطبع هذه الرسالة وإذا به يشجعه على المضي في التتبع المفيد ويتبرع بكلفة الطبع متى يسرت له الورق وكان عدد ما يطبع من الكتب يومئذ لا يتجاوز الخمسمائة نسخة عدا شأن الصحف الأدبية والمجلات وهكذا أصبح مؤلفا معروفا وتتابعت مؤلفاته حتى تجاوزت الثلاثين كما كان وهو طالب في دار المعلمين يكتب في الجرائد الوطنية واشتغل في الأمور السياسية فلما تخرج من هذه الدار انصرف للصحافة انصرافا كليا حتى عين مديرا لإدارة جريدة (المفيد) ومندوبا متجولا لها وقد طاف العراق من شماله الى جنوبه بهذه الصفة ووضع رحلته المشهورة ( رحلة في العراق او خاطرات الحسني) التي طبعت ثلاث طبعات ولما الغت الحكومة امتياز جريدة المفيد انشأ جريدة ادبية تاريخية أسبوعية باسم (الفضيلة) وقد برز عددها الاول في الاول من ايلول (سبتمبر) عام 1925. ويضيف عبد الرزاق الحسني قائلا: ويشاء الطالع ان ينتقل الوالد الى الرفيق الأعلى وان استعين بما تركه لي من مال فابتاع مطبعة خاصة وانتقل الى مدينة الحلة لأصدر جريدة علمية أدبية تاريخية باسم (الفيحاء) وقد صدر عددها الاول في 27 كانون الثاني (يناير) عام 1927 ويقول الحسني ان العلامة الشيخ عبد الكريم الماشطة بنشر تراجم علماء الحلة وفقهائها في القرن السادس للهجرة في جريدتي (الفيحاء) تباعا وقد فسرت بعض الجهات المتعصبة هذه التراجم تفسيرا بعيدا عن الحق فسحبت امتياز الجريدة وصادرت المطبعة

ويضيف الحسني بالقول: وتلقيت رسالة من (سكرتير المعتمد السامي البريطاني) في بغداد يطلب إلي فيها التوجه الى بغداد ومقابلة محمد حسين خان النواب في دار المندوبية وشعرت يوم تمت هذه المقابلة ان هنالك رغبة ملحة في استغلال قضيتي للدس والكيد لحكومتي وكان لي علاقة صحفية بالمغفور له جعفر باشا العسكري منذ عام 1923 وكان العسكري يشغل آنذاك رئاسة الوزارة في عام 1972 للمرة الثانية فنقلت إليه موضوع سحب امتياز جريدتي ومصادرة مطبعتي ومحاولة استغلال قضيتي فأمر رحمه الله بإعادة المطبعة إلي فورا وطلب الى الزعيم الخالد ياسين باشا الهاشمي ان يبحث عن وظيفة مناسبة لي في ديوان وزارته فعينت معاونا لمحاسب وزارة المالية فمديرا لخزينة بغداد فمديرا لحسابات مديرية الري العامة ومنها نقلت الى مثل وظيفتي في (مديرية البرق والبريد العامة) وحتى إذا أعلنت الحرب العالمية الثانية في 3 أيلول (سبتمبر) 1939 وجدت الاصطدام المسلح بين الجيشين العراقي والبريطاني في 2 مايس ( أيار ) 1941 (فيما عرف بحركة رشيد عالي الكيلاني) فصلت من الخدمة لمدة خمس سنوات وأبعدت الى المعتقل (الفاو) أقصى جنوب العراق ثم الى (معتقل العمارة) قضيت في المعتقلات اربع سنوات كتبت خلالها كتابي (تاريخ العراق السياسي) بأجزائه الثلاثة وهو الكتاب الذي نال جائزة (المجمع العلمي العراقي) لأحسن كتاب قدم في عام 1949 وطبع ست طبعات . عدت الى الخدمة في الحكومة بعد خروجي من المعتقل وانتهاء مدة فصلي القانونية كما عاد غيري من الضباط والوزراء والمتصرفين والمدرسين وغيرهم الى وظائفهم ثم ندبت للعمل في (ديوان مجلس الوزراء)...

وفي هذا الصدد يذكر عبد الرزاق الحسني ان نوري السعيد رئيسٍ الوزراء كان مسؤولا عن زج أكثر من ألف شخص في السجون والمعتقلات في أعقاب الحرب العراقية البريطانية التي اندلعت في أيار 1941 فلما انتصر الحلفاء على دول المحور في نهاية الحرب العالمية الثانية العام 1945 اراد نوري ان يخفف عن المعتقلين آلامهم وينسيهم مالاقوه من ضروب المحن فصار ينعم عليهم بأساليبه الخاصة كمنح الموظف درجتين أعلى وإعطاء تعهدات حكومية الى بعض المقربين ومصاهرة البعض الآخر. وفي شباط العام 1949 استدعى نوري السعيد عبد الرزاق الحسني وقال له : (بلغني انك تنفق قسما من راتبك في إفساد ضمائر بعض الموظفين بغية الحصول على بعض الوثائق لكتبك التي تؤلفها وعليه قررت نقلك الى ديوان مجلس الوزراء لتبحث عما تريد!! ) ثم أمر بان توضع تحت تصرفي أوراق القضية الفلسطينية لكنه اسر الى رئيس الديوان (نوري القاضي) ان يمكنني من الاطلاع على ما أريد وهكذا منذ شباط 1949 عهد إلي تنظيم سجلات خاصة بتاريخ الدولة على نمط المؤسسة العثمانية (وقعي نويس) وقد قضيت في هذا الديوان اربع عشرة سنة استفدت خلالها فوائد تاريخية جليلة وكانت من اسعد ايام حياتي في الوظائف الحكومية فتعاقب على رئاسة الوزراء في بحر هذه السنوات السادة:

نوري السعيد، مزاحم الباجه جي، علي جودة الايوبي، توفيق السويدي، مصطفى العمري، نور الدين محمود، جميل المدفعي، فاضل الجمالي، ارشد العمري، عبد الوهاب مرجان، احمد مختار بابان، عبد الكريم قاسم، واحمد حسن البكر فلم يتدخل احد منهم في عملي ولم يمسسني سوء من واحد منهم حتى أحلت نفسي على التقاعد في أواخر عام 1964

يمتاز الاستاذ عبد الرزاق الحسني بخصال فريدة يندر ان تجتمع في غيره من المؤرخين فهو يتوخى الصدق والحق في كل ما كتب ويكتب رغم صعوبة الخوض في احداث ما زال بعض رجالها احياء يملكون من اسباب القوة والمنعة ما يحرج الباحث وقد صرح السيد الحسني بهذه الحقيقة في قوله: "ان تدوين احداث العراق السياسية الحديثة من الصعوبة بمكان، فان معظم ارباب العلاقة ما زالوا في قيد الحياة ولكن تمرسنا في الحياة الكتابية خلال ثلاثين عاما شجعنا على المضي في هذا السبيل الوعر على الرغم مما تعرضنا له من مضايقات وما تكبدناه من خسارات ولم ابتغ من اقحام نفسي في حلبة هذا الجهاد المتعب إلا الاسهام في خدمة البلاد من ناحية تدوين تاريخها الحديث تدوينا بعيدا عن الغرض والمحاباة. لذا فقد استأثرت كتبه باهتمام الدارسين والباحثين وما من كتاب من كتبه الا قد اعيد طبعه مرات ومرات منها ما جاوز الطبعة السادسة وهي ما تزال مرغوبة لحيوية موضوعاتها وقربها من تاريخ العراق الحديث والعقائد والاديان وخاصة التاريخ السياسي وقد ناهزت مؤلفاته الثلاثين عدا وهي وحدها تؤلف مكتبة لا يستغني عنها باحث او كاتب او مثقف مهما كان حظه من العلم والمعرفة موفوراً

وعن مقالاته المنشورة يحدثنا عبد الرزاق الحسني فيقول نشرت عددا كبيرا من المقالات البلدانية، والتاريخية، والأدبية في معظم المجلات العراقية المعتبرة كالزنبقة والتلميذ ودار المعلمين والمرشد ولغة العرب والنشء الجديد (وهذه كلها تصدر في بغداد) والاعتدال والعربي والبيان (وكانت تصدر في النجف) وفي مجلة النجم الموصلية والهدى التي كانت تصدر في العمارة وفي غيره كما نشرت في الهلال، والعصور، والكتاب، ورسالة الاسلام (الحصريات) والعرفان والعروبة والمكشوف ( اللبنانية ) والحديث ( الحلبية ) و... الخ واني لمدين لمجلة ( العرفان) الصيداوية لانها كانت تنشر لي عشرات المقالات المنوعة كما ان ( مطبعة العرفان ) تولت طبع كتبي كلها تقريبا فلولا ( العرفان ) ولو لا رعاية صاحب العرفان الشيخ احمد عارف الزين لما كنت ولا كان اسمي ولا ابصرت مؤلفاتي العديدة النور وهذه حقيقة اذكرها ما حييت حياتي الكتابية ويضيف الحسني في إعطاء صورة واضحة عن حياته الكتابية، فيقول: وكاتبت جماعة من فطاحل الاستشراق كالدكتور هـ. رير، وف. كرنكو، وي. شخت، وهو تسما، ودنلوب، وجب، ولويس ما سينيون، وجاك بيرك، وكراتشوفسكي، وغفوروف، وف. كوتلوف، وبيتر، وغيرهم، ومازلت احتفظ برسائل كثيرة من هؤلاء كما راسلت جمعا من العلماء العرب امثال: الامير شكيب ارسلان، وشيخ العروبة احمد زكي باشا، واحمد تيمور باشا، واسعاف النشاشيبي، وامين الريحاني، ومشايخ جبل عامل: الشيخ احمد عارف الزين، واحمد رضا، وسليمان الظاهر، ومحمد كرد علي، والاب انستاس ماري الكرملي ، ومحمد الفاسي، وسلامة موسى، وعباس العقاد وغيرهم كما توليت كتابة مذكرات رئيسي الوزراء الاسبقين: علي حودة الايوبي، وناجي شوكت، واشرفت على اعداد مذكرات الوزراء: عبد العزيز القصاب وطه الهاشمي وتحسين العسكري. اما مذكرات اللواء الركن ابراهيم الراوي فقد جاء اسهامي فيها ما يلي: واخص بالذكر صديقي الأستاذ عبد الرزاق الحسني الذي بذل جهدا محمودا وسعيا مبرورا، في ملاحظة مواد المذكرات والتثبت من الفصول وصحة التواريخ، ونحو ذلك حتى انه صحبني الى لبنان للإشراف على طبع الكتاب ولولا هذه الجهود وملاحقاته وإلحاحه لما يتسر للكتاب ان يبصر النور

سفراته

اما عن سفراته فيذكر الحسني انه سافر: الى (سوريا) و (لبنان) و(فلسطين) و (الأردن) و (مصر) و (تركية) و (إيران) فضلا عن إمارات الخليج العربي، كما سافرت الى اليونان، والنمسا، وسويسرا، وألمانيا، والدنمارك، والسويد، والنرويج، وبريطانيا، وفرنسا، واسبانيا، وايطاليا، وهولندا، وبلجيكا، وقد ندبت لحضور مؤتمر المستشرفين الخامس والعشرين، الذي انعقد في موسكو عام 1960 م، وانتهزت الفرصة فزرت وباكو، ومدنا سوفيتية أخرى، وعرجت على جيكوسلوفاكيا وبولونيا وغيرها من الدول الاشتراكية في أوربا الشرقية

آثار الحسني المطبوعة

- صدر لشيخ المؤرخين (29) مؤلفا في التاريخ والسياسة وأطياف الشعب العراقي والصحافة والأغاني والرواية، وهي :

  • الخوارج في الإسلام

  • المراقد المقدسة في العراق

نهاية المطاف

وعن وفاته كتبت زكية المزوري في الهزيع الاخير من ليلة الخميس الموافق لليوم الرابع والعشرين من شهر كانون الاول لعام 1997 م، توفي الى رحمة الله تعالى المؤرخ والصحفي الرائد السيد عبد الرزاق الحسني أثر مرض عضال لازمه لاكثر من عشرين عاما حصل (رحمه الله تعالى) على شهادة دكتوراه فخرية بالتاريخ من كلية الآداب بجامعة بغداد عام 1992م، كما حصل على الوسام الذهبي من الاتحاد العام للكتاب والمؤلفين في العراق عام 1996 م .

حفل موكب جنازة السيد عبد الرزاق الحسني بالوزراء وكبار الشخصيات الاعلامية والادبية ووجهاء الدولة، بينما لم يجد الحسني احدهم يطرق بابه او يمد له يد العون حتى لحظة احتضاره الاخيرة، ولولا رعاية وعناية الله سبحانه وتعالى ورعاية ابنته احلام التي تكفلت بمعيشته وعلاجه وعلاج زوجته الفاقدة لبصرها لمات جوعا.

حياته

كان للحسني زوجة واحدة وكانت سيدة فاضلة من اصل ومقام رفيع تزوجها وكان عمره ستة وعشرين عاما بينما لم يزد عمرها عن ثمانية عشر عاما، احبها واحبته واحسن معاشرتها برغم التفافه حول كتبه وبحوثه وادبه مما جعل الزوجة تتذمر وتقضي معظم ايامها في حزن وبكاء لشعورها انه يفضل علمه وادبه عليها ولمرض اصاب عينيها فقدت الزوجة بصرها وامست لا ترى الا بنسبة واحد بالالف حسب ما اكده الاطباء، ورغم العمليات الجراحية الكثيرة التي اجريت لعينيها الا انها لم تاتي بجدوى وتوقفت عن العلاج والمراجعة لضنك الحال التي كانت تعيشه العائلة. عودة النظر لعينيها كانت احدى امنياته التي لم تتحقق في حياته ولا بعدها وامنية اخرى لطالما انتظر تحقيقها وهي نشر مخطوطتيه الضخمتين (اسرار عايشتها) و (الاسرار الخفية) اذ لم يكن بامكانه نشرهما لعدم تمكنه ماديا فبقيا ضمن ما خلفه السيد الحسني لوارثيه علما ان المخطوطتين اصبحتا في غياهب الجب ولم يظهر لهما اثر حتى هذه الساعة.

بعد بلوغ الحسني السنة الرابعة والثمانين من عمره ، اصابه الهزال وضعف العظام فلزم فراشه وكان بالكاد يتمكن من الخروج لنزهة قصيرة او زيارة الاقارب، بعدها اقعده المرض وداهمته الشيخوخة بوحشيتها وظلالها القاسية وحوطته بسلاسل وقيود سجنها المريع فسكن بين اربعة جدران لا يغادرها الا حين دخوله المشفى للمعالجة او لقضاء حاجته، الا ان حالته الصحية تفاقمت وازدادت سوءا اذ تم تشخيص ما به من امراض حتى وصلت الى اكثر من سبعة امراض كتوقف احدى الكليتين وذات الرئة وتوقف الرئة اليمنى وارتفاع ضغط الدم وضعف القلب اضافة الى مضاعفات كثيرة نتجت عن توقف الكلى والرئة. على هذا قضى السيد الحسني ما يقرب الخمسة عشر عاما اسير حجلته الرباعية الاقدام والمصنوعة من ارخص المعادن وكانت تعاني هي الاخرى من اعوجاجات وكسور تم تركيعها بالحبال، رافقته هذه الحجلة الوفية حتى اواخر ايامه، رغم حالته تلك كان مزدهيا بعلمه مواظبا على لقاء طلابه في داره فلم ييأس يوما ولم يعتذر عن مقابلة احد طرق بابه في سؤال، بل داوم على القراءة والكتابة واستطلاع اخبار العلم والعلماء والاداب والفنون والعلوم من كل من يقابله وكان يجلس بين ضيوفه وطلبته سعيدا يرد على اسئلتهم واستفساراتهم فيزيدهم تعلقا بالعلم ويحثهم على الاصرار في طلب العلم حتى اخر لحظة من الحياة، واذا ما تذمر فرد منLink text عائلته من كثرة زواره وطلابه كان يرد غاضبا : العلم اثمن ما يمكن ان يمنحه المرء لغيره فجلوسي وجوابي عليهم لا يكلفني شيئا وابخل الناس من بخل بعلمه على الناس، على هذا احبت عائلته زواره ومريديه من طلاب وطالبات وصحفيين.

وحتى اقل من اسبوع من وفاته كان يستقبل (رحمه الله تعالى) طالبة دكتوراه في داره في الكرادة ببغداد ويفسر لها كل ما طلبته منه خدمة للعلم وللطالبة وهذا يفسر لنا سخاء وعظمة هذا العلامة الذي لا يمكن ان نتجاهل دوره الكبير في النهضة بالثقافة المعرفية والعلمية في مجال التاريخ والتدوين .

للحسني ابنة واحدة هي احلام، تزوجت وانجبت بنتا واحدة كانت الونيس الوحيد للحسني في ايامه الاخيرة وكانت قريبة الى نفسه وخصها بعطفه وابوته بعد رحيل والدها، كان الحسني راضيا عن ابنته احلام التي تكفلت رعايته والعناية به وبوالدتها وكان يدعو لها بالتوفيق والرضا واوصى ان تتكفل بامور دفنه ومراسيم جنازته وان تنزله في قبره بيديها وعملت بوصيته. وله خمسة اولاد هم حسب الولادة قاسم ومحمد امين وانور وطارق وسليم وكان انور من اقربهم الى قلبه واعطفهم عليه، وله حصيلة لا باس بها من الاحفاد فقد وصل عددهم حتى عام 1998 الى ستة وثلاثين حفيدا معظمهم تلامذة وطلبة في المعاهد والكليات والجامعات ببغداد وغيرها. للحسني دار واحدة تقع في جانب الرصافة في منطقة كرادة داخل وهي من الطراز القديم جدا، وكم تمنى لو ان الدولة تولت رعاية الدار من بعده واتخذتها معلما ومتحفا يجمع اثاره وكتبه ومقتنياته الاثيرة الى نفسه. سخر السيد الحسني كثيرا من زمانه وكان يسأل اهل داره عن الادباء والعلماء ممن استقوا علمهم من معين نهر علمه، ولما كان الاتحاد العام للادباء والكتاب ووزارة الثقافة والاعلام والمؤسسات الثقافية الكبيرة تكرم احدهم كانت عائلته تخفي الخبر عنه، فلطالما تسائل عن سبب اعراض هذه المؤسسات عن استذكاره بامسية او اصبوحة تقدير او تكريم، غير ان ذلك لم يحصل حتى وفاته، كان يتألم ويقلق كثيرا على وضع الثقافة المزري في العراق ثم يضحك قائلا : شر البلية ما يضحك. لم يزد عدد زائريه عن ثلاثة أصدقاء خلال اعوام عمره الاخيرة، وهم الدكتور علاء جاسم محمد وكان رئيس قسم الـتاريخ في كلية التربية الجامعة المستنصرية، وعلي تايه وكان موظفا سابقا في الاذاعة، وعبد المحسن شنشل اخو صديق شنشل، وكان للحسني صديقة حميمة كانت بمثابة الابنة والام والاخت الرؤوم وكان يتمكن من خلالها من معرفة اخبار الدنيا واحداثها المختلفة فتقرأ له الصحف والاصدارات واخبار الادب والعلم وتعينه على حاله وطعامه وتمازحه في ساعات الكدر الكثيرة وتختلق الاعذار لاحبائه ان اعرضوا عنه وكانت تلك الصديقة هي جارته ليلى انيس سليم تلك النبيلة التي كرست وطوعت نفسها لتكون ممرضة واما وابنة لهذا العلامة فقد قالت عنه : كان بالنسبة لي الاب والاخ والصديق، كان من العظماء حمل في اعماقه الكثير من الاسرار الحزينة، كنت اجلس اليه لساعات طويلة بحكم جيرتنا وعلاقتنا الابوية فاكون بقربه معظم نهاري احدثه ويحدثني، يطلب مني شراء الصحف وقراءتها بصوت عال، باح لي بالكثير من الاسرار التي عايشها في ظل حكومات واوضاع وظروف شتى ولو كنت امتلك قلما لكتبت الان صحفا من تلك السيرة النيرة، منحني هذا العالم حنان الاب الذي افتقدته في صغري، ما يحزنني حقا هو خسارتنا الكبيرة فيه فالزمان لا يجود بامثاله كثيرا، وسابقى اتذكر حزنه وحسرته على كتبه التي ابتلعها البحر والنسيان تلك الكتب التي كلفته الكثير من الوقت والجهد والثمن .

قالت عنه زوجته ام قاسم

عشت مع الحسني اجمل وازهى ايام حياتي منحني الكثير من العاطفة والاحترام، كان فكها كثير المزاح حتى اني في احيان كثيرة لم اكن افرق بين جده ومزاحه، كان يهون علينا كل الصعاب حتى تلك التي لم نجد لها حلولا، امضى جل عمره بين كتبه وتلامذته حتى صرت اغار وابكي ولم اكن اتمكن من التحدث اليه لايام طويلة رغم وجودنا معا تحت سقف واحدة، كان ينسى طعامه ونومه، رغم كل ذلك وقفت الى جانبه واعنته على ايامه فقد كنت اعرف واعي ممن تزوجت، وكنت احرص على ان يصل الى اعلى درجات النجاح وان يحقق جميع طموحاته، وللان ورغم رحيله الا انني ما زلت اسمع صوته وسعاله وحركته الواهنة وهو يتنقل هنا وهناك فلم تعينني عيناي على رؤيته خلال السنوات العشرين الاخيرة فقد فقدت بصري تماما وعن ساعاته ولحظات حياته الاخيرة قالت ابنته احلام : في عصر يوم الثلاثاء الموافق 23/11/1997 م، أصيب والدي بنوبة سعال لم يسبق لها مثيل فاسرعت اليه بالطبيب وبعد الكشف عليه اعلن عن خطورة حالته واعلمنا ان احدى رئتيه قد توقفت تماما عن اداء وظيفتها اضافة الى عجز الكليتين وارتفاع ضغطه الى عشرين درجة فيما وصلت درجة حرارته الى 40 درجة مئوية، في اليوم الثاني استقرت حالته وفتح عينيه وراح يبحث ويسال عن الجميع، امسك بيدي واغرورقت عيناه بالدموع وتشبث بي وبوالدتي ولم تكن عيناه تفارقنا جميعا حتى منتصف ليلة الخميس، بعدها اصيب بنوبة سعال شديدة واختناق اخذته في غيبوبة عميقة عرفت حينها ان والدي سيفارقنا، استمرت النوبة هذه المرة وازرق خلالها وتوقف عن التنفس وبردت اطرافه وما هي الا ثوان واذا به يتقيأ كتلة دم كبيرة اغرقت كل ما حوله ثم اسلم الروح وسط ذهول وصراخ ونواح والدتي واخي انور وصديقتنا وجارتنا الحميمة ليلى، وكما اوصاني اخذته الى مغتسل الكاظمية وكفن هناك وطفنا بجثمانه بالاعظمية والكاظمية، ووردني خبر من الوزراء ان لا ادفن ابي الا بعد حضورهم الى بيت والدي بالكرادة لتشييعه وتصوير الجنازة تلفزيونيا، لقد حفل موكب جنازة ابي بالكثير من الوزراء والمسؤولين في الدولة وحضر ممثل عن رئاسة الجمهورية وكل من همام عبد الخالق وزير الثقافة والاعلام، وشبيب المالكي وزير العدل، وفهد الشكرة وزير التربية، والشاعر حميد سعيد الوكيل الاقدم في وزارة الثقافة والاعلام، وملا جميل الروشبياني وكان مستشارا سابقا في رئاسة الجمهورية للشؤون الكردية،

وتحركت الجنازة من البيت الى حسينية الحاج عبد الرسول علي في الكرادة، بعد توديع الوزراء وتقديم تعازيهم لنا، طفت بجثمان والدي جميع المراقد المقدسة في بغداد مرة ثانية في الاعظمية والكاظمية وكربلاء والنجف كما اوصاني، ثم انزلته الى قبره بيدي والحمد والفضل لله تعالى الذي اعانني على خدمته ورعايته وتنفيذ وصاياه. نعم رحل العلامة الوثائقي والصحفي والشاعر والمؤرخ الرائد السيد عبد الرزاق الحسني وسط كل هذه الوجاهة والتكريم والاضواء سوى انه مات وحيدا لم يحتكم على ثمن الدواء، وثمن صحيفة يومية يطلع من خلالها على اخبار واحداث الدنيا، رحل السيد الحسني حزينا وفي نفسه حسرات كثيرة شأنه شأن علماء وادباء

رحم ألله عبد الرزاق الحسني فقد كان شخصية وطنية وقومية تعرض خلال حياته إلى السجن والتعذيب بسبب مواقفة الوطنية والقومية , قضى معظم حياته في البحث والتأليف فكتب تاريخ العراق والامة العربية بصدق ومنهجية وعلمية وبأمانة واخلاص لذا تعد كتبه مراجع تاريخية

المصدر

وصلات