احلام الاقتصاديين/2018

أحلام الإقتصاديين

(فشل الفكر الاقتصادي في رسم طريق الخلاص من الدولة الريعية)

عدنان الجنابي/ تموز 2018

منذ أن شخص حسين مهدوي⁽¹⁾ طبيعة "الدولة الريعية"وإبتدع هذا الإسم لها، والفكر الإقتصادي يعج بآلاف الكتب والبحوث في وصف الدولة الريعية وسبل الخلاص من الفخ الذي وقعت فيه الدول الريعية، والريعية النفطية خاصة.

كان الفكر الإقتصادي يعتبر أن من عوامل التخلف الاقتصادي في الدول النامية هو إعتمادها على إنتاج مواد خام زراعية او معدنية. وتكون هذه الحالة منعدمة التوازن حين يكون إعتماد الاقتصاد على مادة أولية واحدة. فالتنمية الاقتصادية إذاً تحتاج إلى موارد مالية (العملات الصعبة) للتصنيع من جهة، وتنويع الاقتصاد وتوازنه من جهة أخرى، إذا كان يعتمد على مادة واحدة.

وعندما توفرت موارد النفط فإن مشكلة توفر التمويل تعتبر محلولة، ويتجه التفكير عند ذلك إلى سبل تنويع الاقتصاد وتوازنه بدئاً بالبنى التحتية التي توفر الأساس الاقتصادي لتنمية متوازنة، ومستدامة.

وفي العراق تم تأسيس مجلس الإعمار بعد القفزة في عوائد النفط عند تعديل إمتيازات النفط إلى المناصفة بالأرباح عام 1951. وقد خصص لمجلس الإعمار (70%) من عوائد النفط. وإنصبت مشاريع مجلس الإعمار في البداية على البنى التحتية من سدود وطرق وجسور وبعض الصناعات الأساسية مثل الإسمنت.

وخير مثال على هذا الإتجاه في الفكر الاقتصادي تقرير اللورد سولتر⁽²⁾ إلى مجلس الإعمار. ومن يدرس الفكر الاقتصادي العراقي من الدكتور محمد سلمان حسن إلى الدكتور مظهر محمد صالح، يجد أنه ينصب على معالجة مشكلة تنويع الاقتصاد كمدخل للتنمية المستدامة والرفاهية.

لا نحاول هنا إستعراض كل ما كتب في الدولة الريعية والريع النفطي، إذ أن ذلك يتطلب نقد مئات المؤلفات وهو مجهود لا يتوفر له الوقت، ولا طائل تحته من وجهة نظرنا. نسعى بدلاً من ذلك إلى محاورة ثلاث نصوص تحتوي على خلاصة الفكر الاقتصادي المعاصر من وجهات نظر مختلفة. وهذه النصوص المنتقاة هي:

1- الدكتور عمر الرزاز: من الريع إلى الإنتاج⁽³⁾.

2- الدكتور علي خضير مرزا: إستحكام الفخ الريعي في العراق⁽⁴⁾.

3- الدكتور صبري زاير السعدي: المشروع الاقتصادي الوطني في العراق⁽⁵⁾.

ولكل من مرزا والسعدي كتب أوسع من النصوص المشار إليها أعلاه، إلا أننا سنحصر مراجعتنا للنصوص المذكورة لأنها تحتوي على أهم الجوانب التحليلية والنظرية في موضوعة الدولة الريعية لهذين المفكرين المتميزين. ونصّيهما موضوع البحث يتميزان بأعلى درجات الرصانة العلمية والخبرة العملية.

أما نص الدكتور عمر الرزاز فهو من أفضل ما نشر حول الطريق الصعب للخلاص من الفخ الريعي، ويحتوي على مقومات فكر الرزاز في هذه القضية.

في المفهوم النظري للدولة الريعية:

لا يختلف أساتذتنا الكبار الثلاثة كثيراً في توصيف الدولة الريعية بالشكل الذي حدده أستاذ رابع هو الدكتور حازم الببلاوي⁽⁶⁾، والذي لم يتطرق كثيراً إلى طرق الخلاص من الفخ الريعي بل ركز على وصف الدولة الريعية بإحتوائها على الخصائص الأربع التالية:

1- الدخل الريعي (النفطي) هو النشاط السائد في الاقتصاد.

2- يتكون الدخل الريعي من إيراد خارجي، ولا يتكون من قيمة مضافة محلية.

3- لا تشارك اليد العاملة والمدخلات المحلية بنسبة كبيرة في إنتاج النفط.

4- تكون الحكومة هي المتلقي للريع النفطي الذي يأتي من الخارج.

ويتجاوز عمر الرزاز هذه الركائز الأربعة إلى توسيع إضافي لمفهوم الريع بالإستناد إلى ما ذهب إليه "لوشياني وآخرون على أن مصادر أخرى (للريع) مثل تحويلات العمالة المهاجرة وغيرها من المصادر قد تجعل الاقتصاد ريعياً أو شبه ريعي". وهذا التوسيع يخرج عن الخاصية الرابعة للدولة الريعية في أن الحكومة هي المتلقي للريع الخارجي، إذ أن تحويلات العاملين تذهب لذويهم أو لحساباتهم الخاصة وليس للحكومة، والفرق كبير كما سنوضح لاحقاً.

الدكتور عمر الرزاز:

يسعى الرزاز في بحثه للإجابة عن السؤال المتعلق بأسباب " فشل الدول العربية في خلق فرص عمل كافية للشباب، هذا الفشل الشامل للدول العربية من دون إستثناء، الغنية منها والفقيرة، ذات الكثافة السكانية العالية أو المنخفضة، ذات مستويات التعليم الجيدة أو المتدنية"، ويعتبر الرزاز أن ارتفاع نسبة البطالة بين الشباب قد يكون المفصل القاتل (كعب أخيل)، ونقطة الضعف التي كشفت الإخفاق التنموي بأبعاده السياسية والإقتصادية والإجتماعية.

ويقر الرزاز أن التحول من نموذج دولة الريع إلى نموذج دولة الإنتاج ضمن عقد إجتماعي جديد بين الحاكم والمحكوم " سيتطلب سيطرة المجتمع، من خلال منتدبيه المنتخبين على الريع الذي مثل تاريخياً مصدر القوة للسلطة المستبدة. ويشمل ذلك السيطرة على مصادر الريع وسبل إنفاقه".

كما يقر أن " الريع الاقتصادي والإستبداد السياسي متلازمين، يحصن كل منهما الآخر".

وبهذا القدر يرسم الرزاز إطاراً فولاذياً للفخ الريعي لا يمكن الخلاص منه. فالدولة الريعية المستبدة لن تتنازل إلى الشعب. ومن أين، إذاً، سيأتي ممثلي الشعب المنتخبين؟ وأي دكتاتور لديه موارد الريع الخارجي سيسمح بإنتخابات تؤدي إلى سيطرة الشعب على موارد الريع وسبل إنفاقه؟

يدخل الرزاز في عالم الأحلام عندما يضع تصوره التفصيلي لسبل الإنتقال من دولة الريع إلى دولة الإنتاج. ويسهب الباحث في كيفية جعل الريع في خدمة الإنتاج. ولكن قبل ذلك يصف لنا كيف أن الدولة الريعية تجعل الإنتاج في خدمة الريع، إذ يلوم الرزاز الاقتصاديين السابقين واللاحقين لعدم تطرقهم " إلى البدائل أمام دولة الريع، وكأن الريع قدر" يدوم ما دام النفط موجود. ويجزم الرزاز أن هذا القدر ليس بالمحتوم. إذ أن دولة مثل " النرويج مثال صارخ لدولة غنية بالمصادر لكنها لا تتصف بخصائص الدولة الريعية". ويجيب الرزاز على نفسه بأنه يقر " أن تاريخ النرويج الحديث مختلف جذرياً عن تاريخ بلادنا". ويجب أن نذكر الباحث أن التاريخ ليس وحده ما يفصل بيننا وبين النرويج، فإن إقتصاد النرويج عند إكتشاف النفط كان إقتصاداً متقدماً ومتنوعاً، وللمجتمع مؤسسات راسخة في الديمقراطية لا تسمح بتسلط دكتاتور على ريع النفط. وهي بهذا لا ينطبق عليها ما ينطبق على دولنا الريعية النفطية.

ويعتقد الرزاز أن نقمة الموارد هي " نقمة مؤسسات" ويخرج لنا الرزاز بتوسيع جديد لمفهوم الدولة الريعية بأن " تصنيف الدولة إذا ما كانت ريعية أم لا، أن لا يقصر النظر إلى النسبة التي تشكلها مصادر الدخل من الريع من الدخل الكلي... حيث بالإضافة إلى توافر الريع وإمكانية إستخدامه": الإلتفات إلى الإعتبارات التالية:

- إنعدام الديمقراطية ومؤسساتها.

- إنعدام وضعف الدخل الضريبي.

- الحرية غير المقيدة للسلطة في إنفاق الإيراد الريعي دون رقابة.

ولا يقول لنا الباحث كيف تنتقل الدولة الريعية إلى دولة ديمقراطية فيها " توافق حول الأولويات العامة بين السلطة والمجتمع".

إن العقد الاجتماعي في الدولة الريعية مبني على أن الحاكم يتكرم على المحكوم بإعطائه شيء من فتاة الريع إذا ما أطاع الحاكم. وهذا عكس العقد الاجتماعي في دولة الإنتاج والجباية والمبني على أن المحكوم يقبل بدفع الجباية للحاكم إذا كان زمام الأمور بيد المحكوم، وعلى أساس أن (لا ضريبة دون تمثيل) (No taxation without representation).

فالباحث يؤكد إنخراط " دول عربية كثيرة، خصوصاً الخليجية منها، في قطاعات إنتاجية عديدة. ولكن اللافت هو القدرة على إخضاع الإنتاج إلى منطق الريع، وليس العكس، جرى (ترييع) العمليات الإستثمارية والإنتاجية نفسها وتحويلها إلى إمتيازات ريعية للدولة والأفراد" وهذا ما سبق أن كررناه⁽⁷⁾ من أن الدولة الريعية لا تسمح بظهور أنشطة إقتصادية إنتاجية أو طبقة متوسطة مستقلة إلا إذا كانت أنشطة طفيلية تعتاش على رأسمالية الدولة الريعية، أو إذا كان الأفراد من زبائنها وأتباعها ويعتاشون على فساد الدولة الريعية. ويضيف الدكتور الرزاز إلى المقولة المعروفة " أن السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة بالمطلق"... بالقول " والسلطة المطلقة المدعمة بالريع مفسدة بالمطلق قابلة للإستمرار"!

ومع كل هذا يحلق الباحث في الأحلام ليرسم لنا " العناصر السبعة لعقد إجتماعي عربي جديد نحو دولة الإنتاج":

1- من الإستبداد إلى التحول الديمقراطي وفصل السلطات.

2- من سلطة الريع إلى حاكمية الثروة الوطنية والمال العام.

3- من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الإنتاجي.

4- من التهميش إلى التشغيل.

5- من عنصر بشري مذعن إلى عنصر بشري خلاق.

6- من محاصصة الريع إلى توزيع الدخل والحماية الاجتماعية.

7- من تشرذم سيادي عربي إلى تكتل سيادي عربي.

ولا ندري إذا كان الحلم السابع نابع من التأثر بالمرحوم منيف الرزاز، القومي العربي، والد الدكتور عمر!

كما لا نحتاج هنا إلى محاورة محتويات العناصر أعلاه من أحلام الباحث، ولكننا نفتش عن الآلية التي يقترحها للإنتقالات التي يريدنا الولوج إليها، فلا نجد سوى الأحلام والتمنيات.

ويختم الباحث أطروحته بما يلي:

" لم تتغير المعادلة كثيراً (من زمن إبن خلدون) لكنها ما زالت بعيدة المنال. وإن أصبحت ممكنة!"

وهنا بيت القصيد. إذ أن جولتنا مع الباحث والمفكر المتميز الدكتور عمر الرزاز لا تساعدنا على معرفة كيف تصبح هذه الأحلام ممكنة التحقيق. ولربما كانت الإحتمالات غير مستحيلة في الدولة شبه الريعية مثل الأردن وتونس والمغرب ولبنان، والتي لا تذهب كل الموارد الخارجية مثل تحويلات العاملين إلى الحكومة. فهي كما وصفها الباحث "بالطريق الصعبة". هو اليوم رئيس وزراء الأردن، وفي أغلب الإحتمالات ستكون الطريق أمامه شبه مستحيلة، ويخرج كما خرج من قبله الدكتور حازم الببلاوي عندما كان رئيس وزراء مصر، دون تحقيق الأحلام التي أراد أن يمنينا بها. وإن كان الطريق أمام الدول شبه الريعية صعباً، فإن الطريق أمام الدول الريعية (النفطية) مستحيلة.

الدكتور علي خضير مرزا:

لا أبالغ إذا قلت أن الدكتور علي مرزا هو من أكفأ وأدق الإقتصاديين اللذين بحثوا ونشروا عن الاقتصاد التطبيقي في الدول الريعية. فقد عمل في وزارة التخطيط العراقية لأكثر من عقدين من الزمن كباحث متميز، وعمل ضمن برنامج الأمم المتحدة للتنمية في ليبيا وصدر له كتاب متميز عن ليبيا⁽⁸⁾، وله كتاب جديد عن العراق. وقد إهتم الدكتور علي بالكثير من تفاصيل صناعة النفط والغاز في العراق، ونشر العديد من البحوث الرصينة في هذا المجال.

لذا فإن الباحث هو خير من يصف لنا " الفخ الريعي في العراق". وأنصح كل من يريد الإطلاع على " مراحل إستحكام الفخ الريعي في العراق"، الرجوع إلى بحث الدكتور علي مرزا في هذا المجال إن لم تتاح الفرصة لمراجعة جميع كتبه وبحوثه. وخلاصة ذلك "إن إستمرار النظام الإستبدادي وأحادية الاقتصاد تقوي بدورها المظاهر الريعية السياسية والإقتصادية والإجتماعية، وهكذا. وتبين تجربة الدول النفطية ان من الصعوبة التخلص من هذا الفخ أوالحلقة المفرغة".

ويصف الدكتور بدقة تزايد الإعتماد الحكومي على الريع النفطي، إذ بلغت حصة النفط في موازنة عام 2012، نسبة 91.5% من الصادرات السلعية. ويوثق الباحث تضخم الجهاز الحكومي وخاصة في القوات المسلحة والأجهزة الأمنية بدقة في المراحل المختلفة لإستحكام الفخ الريعي وخاصة بعد عام 2003.

ويعزي الباحث تعميق صعوبة إيجاد مصادر بديلة إلى الإستخدام الحكومي إلى ظواهر عدة، من أبرزها: " غياب برنامج وطني، متفق عليه، لتحقيق مصالحة وطنية عامة وشاملة والإتفاق على عقد إجتماعي/ سياسي يتيح تحقيق المواطنة المتساوية للمجتمع. ويتضافر مع ذلك غياب إستراتيجية جدية وخطة رصينة للتنويع الاقتصادي للتخلص من الحالة الريعية"

أود هنا أن أذكّر الدكتور علي أنه شارك أثناء عمله في العراق في صياغة عدة خطط رصينة للتنويع الاقتصادي، كما أن من سبقه ومن خلفه في وزارة التخطيط، وإلى يومنا هذا، يضعون الخطط الرصينة للتنويع افقتصادي. ولا شك أن الدكتور قد إطلع على البحوث والمقالات المتعددة التي كان ولا يزال زميل متميز آخر هو الدكتور مظهر محمد صالح، المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء العراقي، يقوم بنشرها، والإجراءات التي يصفها في سعي الحكومة العراقية الحالية للتنويع الاقتصادي، وخاصة بعد إنهيار أسعار النفط عام 2014.

إن المشكلة هي ليست وجود أو عدم وجود خطط للتنويع الاقتصادي للتخلص من الحالة الريعية. المشكلة هي إستحكـام الفخ الريـعي والحـلقة المفرغة في متـلازمـة الريع/ الإستبداد. ولقد أسهبت في وصف هذه المتلازمة في ما نشرته أنا حول الموضوع، وأنا متأكد أن الدكتور علي قد إطلع على معظم ما نشرته حول هذه المتلازمة التي تتكرر في كل الأزمنة وفي كل الدول الريعية النفطية من فنزويلا (بداية القرن العشرين) إلى أنغولا (نهاية القرن العشرين).

يعود بنا الدكتور علي مرزا، مع الأسف الشديد، من الباحث المتميز إلى الحالم عندما يتحدث عن "محاولات علاج في دول نفطية". ويضع على رأس أمثلته تجربة أندونيسيا التي إنتقلت من الدولة الريعية الدكتاتورية في عهدي سوكارنو وسوهارتو، إلى التنمية المتوازنة وشبه الديمقراطية حالياً. ويصف طريق الخلاص الأندونيسي بأنه " تم تطبيق سياسة إقتصادية.... إستهدفت تحقيق نمواً صناعياً عالياً موجهاً نحو التصدير من خلال تطور رأسمالي يعتمد على النشاط الخاص (عدا النفط)، بالتكامل مع الاقتصاد الدولي... وقد أصبحت أندونيسيا نتيجته دولة صاعدة بحلول العقد الأخير من القرن العشرين".

أستغرب أن الدكتور علي، الذي أعرفه كباحث مدقق وموثق لكل ما ينشره، فاته أن إنتقال أندونيسيا المشار إليه ترافق مع تناقصي صادرات النفط الأندونيسي وتحولها إلى مستورد للنفط الخام والمنتجات النفطية. إذ كان إنتاج النفط الأندونيسي مؤخراً أقل من مليـون برميـل يومياً، بينما إستهـلاكها من هذه المنتـجات بلغ ضعـف ذلك تقريبـاً (جدول-1).

وعندما ندرس تناقصي صادرات النفط من أندونيسيا نجدها تتزامن مع ظاهرة التعددية في التنمية الاقتصادية، ترافقها تعددية في العملية السياسية.

إن نجاح التجربة الأندونيسية لم يأتي بسبب الخطط الرصينة للتنويع الاقتصادي، بل في تناقصي دور الفخ الريعي وإنفكاك متلازمة الريع/ الإستبداد. فبينما كانت أندونيسيا تنتج 1.6 مليون برميل يومياً. كانت تصدر 1.3 مليون برميل يومياً، وكانت دولة ريعية/ إستبدادية بإمتياز.

بلغ إنتاج النفط في أندونيسيا قمته عام 1977، ويتزامن ذلك مع أعلى معدل للصادرات عند حوالي (1.4) مليون برميل يومياً. ومنذ ذلك التاريخ تناقصت صادرات أندونيسيا تحت تأثير تناقص الإنتاج وزيادة الإستهلاك. فتحولت أندونيسيا إلى مستورد للنفط عام (2002-2003)، وقبل ذلك التاريخ كانت عائدات النفط لا تشكل نسبة مهمة من الإنتاج الكلي وحتى من الصادرات.

ونلاحظ هذه الظاهرة في المكسيك، وتقلب النظم السياسية فيها من الإستبداد إلى التعددية بالتزامن مع زيادة أو نقصان دور النفط في الصادرات المكسيكية.

ولا نحتاج هنا إلى تتبع تفاصيل ما يدرجه الباحث من سياسات إتبعتها أندونيسيا للخلاص من الفخ الريعي، بل علينا دراسة إنحسار الفخ الريعي وخلاص أندونيسيا من ربقته.

أما الأمثلة الأخرى التي يسوقها الدكتور علي مرزا من " دول متقدمة" فهي لا يعتد بها لأنها لا ينطبق عليها وصف الدولة الريعية.

وعن أمثلة من دول الأوبك التي حاولت علاج الفخ الريعي يورد الكدتور مرزا "أن دول الخليج قد نجحت في إيجاد بديل مساعد ملموس للعملة الأجنبية، من خلال عوائد إستثمارات الصناديق السيادية، بالإضافة لتوفير فرص عمل (محدودة للمواطنين) في مجالات التجارة والتمويل، غير أن التنويع الاقتصادي بمفهوم توفير بديل مستدام للإستخدام وهيكل إنتاجي وتصديري بعيداً عن التقلبات في العوائد النفطية لا يزال بعيد المنال".

لا خلاف مع الدكتور على قدر النص وحرفيته. ولكن يعلم الدكتور وجميع المطلعين أن الصناديق السيادية توفر عملة أجنبية من الخارج، وهي ليست إيرادات من أنشطة إنتاجية في الداخل. وهي بهذا ريع من نوع آخر يأتي من الخارج ويذهب للحاكم. كما أن فرص العمل تذهب في الغالب للعمالة الوافدة، بينما هناك بطالة تجاوزت 30% من الخريجين الشباب في السعودية، ويعمل في البلاد حوالي ثمانية ملايين أجنبي.

أما "رؤية المملكة العربية السعودية 2030" فهي لا تختلف عن أحلام الإقتصاديين في التنويع الاقتصادي الذي ينهار في الطريق وننتهي إلى مزيد من الأحادية والإعتماد على الريع النفطي.

وإذا كنا لا نزال نقر للدكتور علي مرزا بالإجادة والإمتياز في البحث والتوثيق في الاقتصاد التطبيقي في ما ينشر، وخاصة بالنسبة إلى العراق وليبيا، إلا أنه يقع في فخ الأحلام عندما يتحدث عن "المقترحات... للمساهمة في معالجة الفخ الريعي". وهو يقر بأن " صعوبة التخلص من الفخ الريعي... تنبع من معضلة... أن الهيكل الاقتصادي الذي نشأ أثناء صعود دور العوائد/ الريع النفطي، منذ خمسينيات القرن الماضي، في دول الأوبك والعراق خاصة، أصبح معتمداً بشكل كبير جداً على هذا الريع بالإضافة لتكيف شكل الحكم ومؤسساته وكذلك المجتمع، سياسياً وإجتماعياً، لتزايده وهيمنته على باقي مصادر الدخل". فكيف يمكن التوقع أو الطلب من هذه المؤسسة، وفي مقدمتها النخبة السياسية، نفسها التخلص من الفخ الريعي وما يؤدي من التأثير سلباً عليها؟.

والجواب من وجهة نظري هو أن ذلك غير ممكن، لأن الفخ الريعي يديم نفسه من خلال متلازمة الريع/ الإستبداد، وإخضاع الدولة إلى النمط الذي نراه يتكرر في جميع الدول الريعية النفطية بدون إستثناء.

ويحلم الباحث في أن "الفرصة توفرت مؤخراً في تصاعد الشعور الوطني الذي نشأ نتيجة الإنتصار على داعش وإعادة توحيد البلد".

ويذهب الباحث في أحلامه بتصورات يسوقها تحت عنوان "سياسات التنويع الاقتصادي". ولا نجد ما يبرر المضي مع الدكتور في أحلامه، لأنها نفس الأحلام التي كان يسوقها وزملاءه من الإقتصاديين البارزين اللذين عمل معهم طوال عشرات السنوات في العراق وليبيا، وما يقوم به حالياً من بحوث تثير الإعجاب في الدقة والصرامة الأكاديمية. ولا شك أن الدكتور علي لا يحتاج إلى من يذكره بأن تلك النصائح والخطط ذهبت أدراج الرياح، ولم ينجز منها شيء على أرض الواقع.

إنني بقدر إعجابي وتقديري للدكتور علي خضير مرزا كباحث وموثق للإقتصاد التطبيقي (الوصفي) فإنني لا أتمنى له أن يضيع في الأحلام التي ضاع فيها الكثير من الإقتصاديين اللذين يرسمون الخطط الوردية المسقبلية للخلاص من الفخ الريعي، لأن تلك الخطط والأحلام تجد مصيرها في سلة المهملات.

الدكتور صبري زاير السعدي:

لا يقل الدكتور صبري زاير السعدي عن الدكاترة عمر الرزاز وعلي مرزا ضلوعاً في النظرية الاقتصادية للتخطيط والتنمية، كما أنه كان من أبرز العقول المؤثرة في التخطيط الاقتصادي في العراق طوال عمله في وزارة التخطيط العراقية. كما أن نتاجه الغزير في مجال إختصاصه، وخاصة كتابه عن "التجربة الاقتصادية في العراق الحديث⁽⁹⁾" يضعه في مصاف أبرز الإقتصاديين العرب في هذا المجال.

يبدأ الدكتور صبري في النص الذي نحاوره هنا بالإقرار بأن العراق شهد "منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي... تراجعاً سريعاً في ممارسات التخطيط الاقتصادي الحكومي، وفشل السياسات الاقتصادية في زيادة النمو والتشغيل والإسراع بالتنمية".

وعلى هذا الأساس فإن الدكتور السعدي يريد أن ينفض غبار الفشل عن التجربة التي مر بها العراق منذ عام 1958 إلى عام 1981، وزامن أغلبها الدكتور السعدي كباحث ومخطط، ويتحول إلى متنبي جديد يدعو إلى (مشروع) لم يسبقه إليه أي باحث أو مخطط، وهو "المشروع الاقتصادي الوطني في العراق".

ويدخل الدكتور السعدي بسرعة إلى مطب التناقض الذاتي في إستنتاجه أن الريع النفطي هو "نعمة" وليس "نقمة". ويستنتج أن "سوء إستعمال السلطة الحاكمة للإيرادات النفطية هو السبب الرئيسي في هذه المشاكل"... أي المشاكل الاقتصادية والإجتماعية "وفي تراجع الديمقراطية".

والخطورة كل الخطورة في هذه الأحجية- البيضة من الدجاجة أم الدجاجة من البيضة- ووضع "النتيجة محل السبب" كما يقول الدكتور السعدي. إذ أن الريع النفطي الذي يأتي للحاكم من الخارج يؤدي دائماً إلى شعور الحاكم بأن هذا الدخل يخوله التسلط على العباد والبلاد، ويؤدي بالتالي إلى الإستبداد وسوء إستعمال السلطة، وليس العكس.

يتجاوز أستاذنا كل الأدبيات عن الدولة الريعية من مهدوي (1970) إلى الرزاز (2013) في أن الريع النفطي هو السبب في ظهور الإستبداد والفساد وإستدامة النموذج التنموي الفاشل في جميع الدول الريعية النفطية على مدى قرن من الزمان (إذا بدأنا بفنزويلا).

يقر الدكتور السعدي ببحثه عن السعودية⁽¹⁰⁾ بأنها "لا تزال تواجه التحدي الحاسم المتمثل بتقليل إعتمادها الكبير على صادرات (إيرادات) النفط الخام بتنويع إقتصادها بالرغم من الوعود والجهود التي بذلت من قبل الحكومات وسلطات التخطيط الاقتصادي خلال العقود الخمسة الماضية".

وينتقد الدكتور السعدي برنامج الإصلاح الاقتصادي لصندوق النقد الدولي... "وتعتمده الحكومة حالياً في تطبيق السياسات الاقتصادية (الليبيرالية الجديدة) بفاعلية تتجاوز تعثر محاولات التحول الاقتصادي المستمرة". ويدعو (مشروع) السعدي إلى "دور الدولة الواسع في إدارة دينامية النمو الاقتصادي، وتشييد مشاريع البنى الأساسية، وإعادة تقييم وتأهيل مشاريع القطاع العام، وتوسيع الخدمات العامة بتمويل من الإيرادات النفطية". ففي المشروع "تؤدي الدولة دوراً أساسياً في تعبئة الموارد لزيادة الإستثمارات الحكومية لتوسيع الطاقات الإنتاجية والصادرات وزيادة إنتاجية العمل".

ولا نريد هنا الإستمرار مع الدكتور السعدي في المفاضلة بين (مشروعه) ونمط (الليبيرالية الجديدة) في برنامج صندوق النقد الدولي، لأننا موقنين بأن المشروعين لن يتم تطبيقهما لأن الأحلام المستقبلية في الدولة الريعية تبقى أحلام، ويكون مصيرها الإهمال. سواءً كانت ليبيرالية أو مركزية، وسواء كان مصدرها البنك الدولي أو الدكتور السعدي.

ولكن تجدر الإشارة هنا إلى أن الدولة العراقية بين عام 1958 وعام 1981، عملت بالظبط ما يدعو إليه السعدي، ولكن بطريقة الدولة الريعية. فقد توسعت رأسمالية الدولة، وأدى قانون الإصلاح الزراعي (1959) إلى تدمير الزراعة، وأدت قوانين التأميم (1964) إلى تدمير الصناعة. وأقامت الدولة مشاريع زراعية (إشتراكية) أهدرت المال والأرض والماء، ولم تحقق إلا المزيد من العجز من توفير الغذاء. وبالتأكيد فإن الدكتور صبري عانى، كما عانيت أنا، في الحصول على الخيار والطماطم، والوقوف في طوابير الجمعيات التعاونية للحصول على المواد الغذائية المستوردة. كما أن الدولة إستثمرت في الصناعة بعد تدمير القطاع الخاص، وأقامت مشاريع صناعية فاشلة بالمطلق، ولا جدوى إقتصادية منها لأن كلفة مدخلاتها من رأس المال والعمل (والمواد الأولية) أعلى بكثير من القية الفعلية لمخرجاتها.

لقد شاءت الصدف أن أقوم، مع ديوان الرقابة المالية، بتدقيق كفاءة الإنتاج في عدد من المشاريع الصناعية في القطاع العام في أواسط تسعينات القرن الماضي. لم أجد أي مشروع يمكن وصفه بالمجدي أو الرابح على الإطلاق. إنما كانت (الربحية) تبنى على لعبة محاسبية مبنية على تصفير الموجودات بالقيمة الدفترية، وإحتساب المواد الأولية بأسعار تبادلية بين مشاريع أخرى للقطاع العام، وبيع الإنتاج بأسعار إدارية تقررها الدولة.

ومع أن الدكتور السعدي يعرف كل هذا، فأنه يقترح علينا في مشروعه أن "إدارة الدولة للإقتصاد والمالية العامة بتكثيف وترشيد الإستثمارات الحكومية بتمويل من الإيرادات النفطية، سيؤدي إلى التنويع الهيكلي للإقتصاد".

ولا أدري ما الذي يجعل الدكتور السعدي يعتقد أن (مشروعه) سينجح في العراق، في حين فشلت مشاريع مماثلة سابقاً في العراق وفي غيره من الدول الريعية على مدى قرن من الزمان!

ومن المؤسف حقاً أن يسيء الدكتور السعدي قراءة التجربة العراقية "منذ بداية خمسينات القرن الماضي وحتى نهاية السبعينات (حيث) أسهمت الإيرادات النفطية... في زيادة النمو الاقتصادي وفرص العمل".

عند الكثير من الاقتصاديين العراقيين حنين كالأحلام إلى مجلس الإعمار ومشاريعه وخاصة في الفترة القصيرة من 1955 إلى 1958. ويجري تقييم تلك الومضة بشكل يتجاوز التحليل العلمي والبحث الرصين عن هذه الفترة إلى نهاية السبعينات. ومن ثم ينتهي هذا الحلم إلى أن الحرب العراقية الإيرانية هي السبب في وضع نهاية للنوستالجيا/ الحلم.

يؤكد أغلب الباحثين في عموم تلك الفترة وبعد إستفحال الفخ الريعي بعد عام 1953، أن النموذج العراقي كان نموذجاً تنموياً فاشلاً غير قابل للإستدامة كما كان النموذج الإيراني زمن الشاه، وكما النموذج السعودي الآن. إن "نقمة" الريع النفطي هي التي أدت إلى التصنيع العسكري والحرب مع إيران، ولم تكن الحرب هي التي أنهت "نعمة" النفط.

إن فشل السياسات الحالية منذ 2003 لم تكن بسبب الإنسياق وراء سياسات "الليبيرالية الجديدة" بل هو الريع النفطي ومتلازمة الريع/ الإستبداد/ الفشل الاقتصادي. ولا تحتاج الحكومات والإحزاب السياسية المهيمنة بعد عام 2003 إلى "إستراتيجية إقتصادية" أو "سياسات إقتصادية جيدة التعريف والفاعلية". إنها تحتاج فقط إلى نهب الريع النفطي ونشر الفساد والإغراق في عسكرة المجتمع (حوالي ثلاثة ملايين في الأجهزة الأمنية المختلفة) والبطالة المقنعة (حوالي خمسة ملايين بين عاملين في الدولة ومتقاعدين).

إن (مشروع) الدكتور السعدي يدعو لرأسمالية الدولة. غير أنه يقرّ بأن "السلطة الحاكمة.... تفضل دائماً الحلول المالية السهلة" والتي هي من أعراض "نقمة" النفط وجزء من متلازمة الدولة الريعية/ الإستبداد/ الفشل الاقتصادي. ولا يخبرنا الدكتور كيف تتحقق مقدمات مشروعه، وعلى رأسها "الإيمان بالحريات المدنية وبممارسة الديمقراطية بجميع أبعادها السياسية والإقتصادية والإجتماعية في إختيار السلطة الحاكمة" و"قيم المواطنة"...إلخ.

أما أهداف المشروع فأولها "تعبئة الإيرادات النفطية والعامة لتمويل الإستثمار الحكومي المباشر في مشاريع إنتاجية جديدة تسرع في عمليات التنويع الاقتصادي" وكذلك "التحرر من هيمنة الريع النفطي على النشاط الاقتصادي". و"خفض مساهمة القطاع النفطي إلى 30% خلال خمس سنوات".

لا أفشي سراً حين ألفت نظر الدكتور السعدي إلى أن زملاءه الحاليين في وزارة التخطيط أخبرونا في خطة 2018-2022 (الخمسية) أن حصة النفط ستزداد من 85% إلى حوالي 90%⁽¹¹⁾.

وفي إلتفاتة فيها الكثير من التناقض، يودعنا الدكتور السعدي بالتأكيد على أن الإنتفاع من الإيرادات النفطية يجب أن يكون "مركزياً بتخطيط وإدارة الدولة"، وفي نفس الجملة يفاجئنا بالقول "إن التحكم المباشر وسوء إستعمال قوة الثروة النفطية من قبل الحكومات كانت تأثيراته، ولا تزال، سلبية في الحياة الاقتصادية والسياسية".

وهكذا يعود بنا الدكتور إلى أحجية- البيضة من الدجاجة، أم الدجاجة من البيضة- ونترك على مضض عدم الخوض في أيهما أفضل: "مشروع" الدكتور أو "الليبيرالية" في برنامج البنك الدولي!

تحية عابرة للدكتور مظهر محمد صالح:

بعد محاورة النصوص الثلاثة أجدني بحاجة إلى أن أمر، ولو بعجالة، على نص معين للدكتور مظهر محمد صالح ورد في محاضرته عن التعزيز المالي للعراق: رؤية للأعوام 2018-2020⁽¹²⁾. حيث يقول:

"وعليه فإنه لا خيار أمام السياسة المالية للعراق سوى خيار واحد هو التعزيز المالي في الأمدين القصير والمتوسط وتنويع مصادر الدخل الوطني عبر برامج إنمائية في الأمد البعيد (العراق 2030)".

ولا أجرؤ هنا أن أزج الدكتور في صفوف الحالمين، إذ يصعب على مثله الإنزلاق في الأحلام. أعلم أن الدكتور مظهر يبذل قصارى جهده، وبواقعية ووعي، لإصلاح الإعتلال في الدولة الريعية التي يعمل كأبرز مستشار إقتصادي لها. ولا أريد أن أختصر مؤلفات⁽¹³⁾ أستاذنا صالح بهذا النص، أو أخراج النص من سياقه. ولكنني أجد في المرة تلو الأخرى أن الكثير من الباحثين الإقتصاديين يهملون العبرة التي تتكرر في تجربة الدول الريعية وهي تكرر السقوط في الفخ الريعي، ومتلازمة الريع/ الإستبداد/ الفشل الاقتصادي. وسنرى قبل عام 2030 إنهيار تنبؤات الإقتصاديين بالخلاص من الفخ الريعي، سواءً في العراق أو في السعودية.

مما تجدر الإشارة إليه إلقاء نظرة سريعة على "خطة التنمية الوطنية: 2018-2022"، وأعتقد أن الدكتور مظهر قد أستشير فيها، والخطة لا ترسم لتنويع مصادر الدخل بل تبقي حصة الإيرادات غير النفطية على مستواها الحالي البالغ حوالي 16%. ولو أخذنا تقديرات وزارة النفط لحصة النفط البالغة 90% عام 2022، فإن حصة الإيرادات غير النفطية ستنكمش بدل أن تتنوع.

محاولات سلوك الطريق الصعب:

عند إعداد مسودة الدستور عام 2005 جرت عدة محاولات لوضع نصوص قد تساعد في تخفيف حتمية الفخ الريعي. ومن تلك المحاولات الفاشلة وضع نص يحيل الزيادات في عوائد النفط إلى "صندوق المستقبل". ولكن من النجاحات أن الدستور حصّن إستقلالية البنك المركزي مما ساعد البنك في الحد من تدخلات السلطة التنفيذية للتصرف بإحتياطات البنك وأدواته النقدية والمالية وخاصة بعد إنهيار أسعار النفط عام 2008 وعام 2014. وإحتوى الدستور على نص يتيم غير واضح في المادة (111) في أن النفط والغاز ملك الشعب العراقي. وفي المادة (106) نص على تشكيل هيئة مستقلة لتخصيص الواردات الإتحادية، دون الدخول إلى تفاصيل عمل تلك الهيئة المستقلة.

جرت قبل نهاية عام 2006 مفاوضات لوضع أسس عمل هيئة تخصص الواردات الإتحادية ووضع مسودة لقانون النفط والغاز. وفيما يخص هيئة تخصيص الواردات الإتحادية كان الإتجاه إلى تكوين هيئة مستقلة تستلم جميع الواردات الإتحادية، نفطية وغير نفطية، وتخصيص للسلطة التنفيذية الإتحادية ما تتطلبه الصلاحيات الحصرية للحكومة الإتحادية بموجب المادة (110) من الدستور، وتخصيص نسبة إلى مجلس الإعمار (المشاريع الإستراتيجية العابرة لحدود الأقاليم والمحافظات) ونسبة إلى صندوق المستقبل. وفي عام 2011 عملت من خلال لجنة النفط والطاقة في مجلس النواب على تطوير هذه الأفكار على شكل مقترح قانون تم تقديمه داخل اللجنة المالية في مجلس النواب والتي كان يرأسها الدكتور حيدر العبادي آنذاك. وجرى خنق المقترح داخل اللجنة المالية. ومضى في الدورة اللاحقة تمرير مشروع قانون من الحكومة جعل الهيئة دائرة من دوائر الأمانة العامة لمجلس الوزراء.

وفي عام 2015 عمل السيد عادل عبد المهدي، عندما كان وزيراً للنفط، على وضع مشروع قانون لشركة النفط الوطنية يجعلها مملوكة إلى جميع المواطنين بأسهم متساوية لا تباع ولا تورث. وبهذا تصبح أرباح الشركة من مبيعات النفط والغاز ملكاً للشعب العراقي. ويفترض هذا المشروع إمكانية خضوع هذا الدخل للضريبة بموجب الموازنات السنوية أو بقانون مستقل.

غير أن السيد عادل إستقال من الوزارة قبل أن يتم تقديم مشروع قانون شركة النفط الوطنية إلى مجلس النواب. وعند إستيزار السيد جبار اللعيبي عمل بعجالة على إحياء مشروع قانون شركة النفط الوطنية الذي وصل إلى مجلس النواب من دون الإشارة إلى ملكية المواطنين لعوائد النفط والغاز. إلا أن لجنة النفط والطاقة في مجلس النواب بالتعاون مع عدد من المختصين بما فيهم السيد عادل عبد المهدي إلى تضمين نص يسمح من خلال صندوق المواطن بتوزيع قسم من أرباح الشركة إلى المواطنين بأسهم متساوية القيمة لا تباع ولا تورث، وتخضع جميع أرباح الشركة إلى حصة للمالية العامة للدولة لا تتجاوز 90%.

إذاً طبق قانون شركة النفط الوطنية بالصورة التي تم التخطيط لها في لجنة النفط والطاقة النيابية، فإن الصراع على تقاسم الريع في البرلمان القادم سيكون على تعظيم موارد صندوق المواطن على حساب حصة المالية العامة. وهنا تسنح الفرصة التاريخية للمرة الثانية لإبعاد الريع النفطي، ولو بشكل نسبي، عن التصرف المباشر والكيفي للحاكم بذلك الريع.

لا يسعى هذا الطريق في الخلاص من الدولة الريعية إلى تنويع الاقتصاد وموارد الدولة، بل يتبع النموذج النرويجي في إخراج عوائد النفط من التسلط المباشر على الريع، مع إختلاف التفاصيل بين النموذجين.

من الإنصاف أن نعود في الختام إلى عمر الرزاز الذي دعى إلى عقد إجتماعي جديد بين الحاكم والمحكوم يعتمد على سيطرة المجتمع على الريع. وهذا هو الطريق الذي نسعى إليه للخلاص من الدولة الريعية، وليس تنويع الاقتصاد كما يحلم معظم الإقتصاديين أو إنتظار نضوب النفط كما لمح لوشياني زميل الدكتور حازم الببلاوي.

جدول انتاج واستهلاك نفط اندونيسا.pdf

المراجع:

(1) Mahdawi, H. –“The pattern and problems of economic development in Rentier States: The case of Iran” Exford University Press, 1970.

(2) Salter, Lord –“The Development of Iraq: A plan of Action”, Iraq Development Board – 1955-56.

(3) د. عمر الرزاز –"من الريع إلى الإنتاج: الطريق الصعبة نحو عقد إجتماعي عربي جديد"2013. أعيد نشره في "النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة في الدول العربية – الأبعاد الاقتصادية" المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

(4) د. علي مرزا –"إستحكام الفخ الريعي فيالعراق: ملاحظات ومقترحات". مجلة قضايا إستراتيجية، العدد 6، شباط/آذار،2018، وكذلك شبكة الإقتصاديين العراقيين.

(5) د. صبري زاير السعدي –"المشروعالاقتصادي الوطني في العراق: مقاربة في برنامج صندوق النقد الدولي"- مركز دراسات الوحدة العربية.

(6) Biblawi, H. –“The rentier state in the Arab world” with G. Luciani – New York – 1987.

(7) عدنان الجنابي –"الخلاص من الدولة الريعية" – دراسات عراقية - 2016.

(8) د. علي خضير مرزا –"ليبيا: الفرص الضائعة والآمال المتجددة" – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – 2012.

(9) صبري زاير السعدي –"التجربة الاقتصادية في العراق الحديث: النفط والديمقراطية والسوق في المشروع الاقتصادي الوطني (1951-2006)- دار المدى – 2009.

(10) صبري زاير السعدي –"معايير التنويع الاقتصادي الهيكلي في إقتصادات الريع النفطي: حالة السعودية" – المستقبل العربي – تشرين أول/أكتوبر – 2017.

(11) وزارة التخطيط العراقية –"خطة التنمية الوطنية: 2018-2022".

(12) د. مظهر محمد صالح: التعزيز المالي للعراق: رؤية للأعوام 2018-2020" منشوره على موقع شبكة الإقتصاديين العراقيين.

(13) د. مظهر محمد صالح –" الاقتصاد الريعي المركزي ومأزق إنفلات السوق" – بيت الحكمة – 2013

–"مدخل في الاقتصاد السياسي للعراق: الدولة الريعية من المركزية إلى ديمقراطية السوق" بيت الحكمة – 2010.