إنتاج العراق من النفط : منظور 2040

عدنان الجنابي/ 2019

نشر الدكتور علي مرزا على شبكة الاقتصاديين العراقيين مؤخرا ورقة بعنوان: "مناظير استهلاك وإنتاج الطاقة في العالم حتى عام 2040، مع إشارة لآفاق استيعاب إنتاج / صادرات النفط العراقي".

وكالعادة فإن الدكتور علي لا يشق له غبار في قدرة الإلمام بتفاصيل الموضوع الذي يبحث فيه. وقد أجاد في سرد المناظير (outlooks) الأكثر تأثيرا وأهمية وهي المناظير التي تعدها وكالة الطاقة الدولية ( I.E.A.) ومنظمة الأوبك، وشركه B.P .

وما يهمنا هنا هو الإستنتاجات التي تفيدنا في رسم إستراتيجية إنتاج وتسويق النفط العراقي في الأمد الطويل.

من المفيد الإشارة إلى ان المناظير المختلفة وخاصة ما نشر منها خلال العقد الأخير تميل إلى تخفيض توقعاتها لمستقبل إنتاج واستهلاك النفط الخام من سنة لأخرى. ويبدو السبب من ذلك هو الأثر المتزايد للسياسات التدخلية للدول المتقدمة والصين في تسريع إجراءات حماية البيئة. وما يهمنا بصورة خاصة,هو تأثير هذه السياسات المتسارعه في الطلب المستقبلي على قطاع النقل الذي يمثل 80% من الطلب على النفط الخام.

ويتزايد زخم التحول من محركات الإحتراق الداخلي (I.C.E.) إلى المحركات الكهربائية في مختلف وسائل النقل البري .صحيح أن السيارة الكهربائية تستهلك طاقة، ولكن مصادر تلك هي من غير النفط.

كما تتبنى مختلف دول العالم سياسات تدفع شركات صناعه وسائط النقل الجوي والبحري إلى زيادة الكفاءة والتقليل من الإنبعاثات التي تزيد من الاحتباس الحراري.

وتزايدت مؤخراً الضغوط لإيجاد محددات لإستعمال المنتجات البلاستيكية والتحول إلى بدائل قابلة للتدوير أو التحلل في البيئة. وبقدر تزايد هذة الضغوط، تجري محاصرة استعمالات المنتجات النفطية في ألصناعة، وهي المعقل الأخير للطلب على المشتقات النفطية بعد قطاع النقل.

خلاصة الكلام أن "مناظير " اليوم يتوقع لها ان تكون اكثر تشاؤماً في مستقبل الطلب على النفط. وقد يكون انكماش الطلب على النفط اقرب مما يتوقع " منظروا" اليوم.

ومهما يكن من أمر توقعات الطلب على النفط الخام في المستقبل فإن إستراتيجية إنتاج وتسويق النفط الخام العراقي يجب ان تأخذ بنظر الاعتبار العوامل التالية:

أولاً: أن إحتياطي النفط العراقي القابل للإستخراج لايقل عن (300) مليار برميل، مع التوسع في الإستكشاف (من اكثر من 500 تركيب قابل لإحتواء النفط لم يجري الحفر الإستكشافي إلا في خمس هذه التراكيب) والتقدم في تقنيات الإستخلاص Recovery)) من معدل 25% حاليا الى 75% من النفط الكلي (oil in place).

ثانياً: أن الإستهلاك العالمي للنفط الخام قد يتراجع في الأمد البعيد مع زيادة عدد المنتجين، مما يحتم تزايد التنافس على أسواق النفط.

ثالثاً: توجه مختلف الدول، وبشكل متسارع لإتباع سياسات الحدّ من إنبعاثات الغازات المسببة للإحتباس الحراري والملوثة للبيئة، وخاصة ما يفرض من قيود كمية أو كلف إضافية على الوقود الأحفوري (الفحم، النفط، الغاز).

إن حجم الإحتياطي النفطي العراقي يعني أن إنتاج (10) عشرة ملايين برميل يوميا بقرابة قرن من الزمان، هي المدى الذي يتاح به للعراق إستعمال جميع إحتياطياتة المحتملة. هذه الحقيقة وحدها تجعل العراق أمام تحدي لا يستهان به في صياغة أي استراتيجية واقعية لإنتاج وتصدير النفط الخام.

في عام 1968 ذهبت موفداً من شركة النفط الوطنية إلى سيلان (سري لانكا الان) لبحث إمكانيات استعمال خزانات النفط فيها والتي تخلت عنها شركة شل، لإستعمالها كمنطلق لتسويق النفط الخام والمنتجات النفطية في جنوب شرق أسيا. وكذلك الذهاب إلى الهند لدراسة إحتمال إقامة مصفاة نفط في مدينة مدراس لتحقيق موطئ قدم في السوق الهندية الواعدة. ومن ثم الذهاب إلى باكستان لإستطلاع إمكانية إنشاء مصفئ مشترك في مدينة كراجي الإستراتيجية على البحر.

بعد أكثر من 50 عاما، لا يزال التحدي قائما لإيجاد علاقة عضوية مع الأدوات ألفعاله في الأسواق التي تحتدم فيها المنافسة، والعراق لا يزال بدون إستراتيجية متكاملة بوجه التحديات المتزايدة.

يدعو الدكتورعلي في ورقته إلى "إتباع سياسة مبادرة في ترويج صادراتة النفطية".

المطلوب في الواقع هو إستراتيجية خلاقة تقلب المعادلات القائمة رأساً على عقب، للخروج من مأزق التراجع والخمول بإنتظار الإزاحة التدريجية من الأسواق وبقاء معظم الثروة النفطية في باطن الأرض الى الأبد.

على العراق، بالإضافة إلى التفاعل العضوي مع المستهلكين، إتباع سياسة تنطلق من حجم الإحتياطي وإنخفاض كلفة الإنتاج إلى مبدأ أن العائد من زيادة الإنتاج هو أفضل من العائد الذي يأتي من زيادة الأسعار. فإن زيادة الإنتاج بثلاث إضعاف (300%) هي ذات مردود أعلى من انخفاض الأسعار إلى النصف (50%).

النفط بضاعة عامة (Generic) لا يؤثر في شاريها سوئ سعرها. ويساعد في المنافسة السعرية وجود مصالح مشتركة في تسويق النفط الخام وشبكات توزيعه، بالإضافة إلى العلاقات الإقتصادية والسياسية المساعدة على تسهيل ذلك.

أما موضوع أوبك وتقسيم الحصص، فهي وهم لا حاجة لنا به، خاصة وأن ميثاق الأوبك ينطلق من احترام سيادة الدول الأعضاء. إن زيادة إنتاج السعودية من أقل من مليونين برميل يومياً في الستينات إلى أكثر من عشرة ملايين برميل يومياً في نهاية السبعينات، لم يتم بمشاورة الدول الأعضاء في الأوبك في حينها. ونظام الحصص في الأوبك غير ملزم لأي دولة لا تقبل به. على العراق أيضا التوسع السريع في تحويل الهايدروكاربونات السائلة والغازية (النفط والغاز) إلى مصنعات بلاستيكية وأسمدة وغيرها لتعظيم القيمة المضافة للمادة الأولية ودخول أسواق بديلة لأسواق النقل.

ينبغي لمن يطبق إستراتيجية جريئة ومجزية لمستقبل النفط العراقي أن يقوم بإستكشاف جميع التراكيب المعروفة، ودراسة الأقل كلفة منها والتحرك بزيادة الإنتاج من الأقل كلفة الى الأعلى كلفة ما دامت كلفة الإنتاج اقل من سعر السوق، أيآ كان ذلك السعر.

مثل هذه السياسة ستدفع المنتجين الأعلى كلفة بمغادرة السوق، ما يفسح المجال للنفوط لأقل كلفة.

بالنسبة للعراق، لا بد من قلب هذه المعادلة على رأسها ودخول الأسواق بشجاعة مستندة إلى أن الزيادة في الإنتاج تأتي بمردود أعلى من الزيادة في الأسعار. وهذه السياسة غير متاحة للدول التي تنتج بما يقارب الحد الأقصى لإمكانياتها المتاحة مثل السعودية وروسيا، وإلى حد ما الولايات المتحدة الأمريكية. ولكنه الطريق الأوضح والأسهل والأكثر مردوداً بالنسبة للعراق.

في منظور شركة B.P. للأعوام 2018 و2019 إلى عام 2040، جرى تكرار أن دول الأوبك غير قادرة على إتباع سياسة توسيع الأسواق أو الحفاظ عليها لإعتماد موازنات هذه الدول على عائدات النفط. وأن هذه الدول يصعب عليها تخفيض الأسعار للحفاظ على حصتها في السوق لحين إنخفاض إنتاج النفط السجيل (Shale oil) في الولايات المتحدة أو نجاح تلك الدول في تنويع إقتصادياتها وتقليل إعتماد موازناتها على النفط. علماً أن مثل هذا التنويع الإقتصادي وتقليل الإعتماد على النفط لم يتحقق على مدى نصف قرن من الحديث عن مثل هذه السياسات.

أما العراق فليس أفضل له من سياسة التوسع في الإنتاج والتسويق بدل سياسة الحفاظ على الأسعار.