طه الراوي
العلامة طه الراوي الذي يعتبر واحدا من علماء اللغة العربية في هذا القرن اكمل بهمته العالية جهود الرعيل الاول من اللغويين كاليازجيين والبستانيين وغيرهم ممن اغنوا اللغة العربية بدراساتهم القيمة.
ورغم ان طه الراوي لم يترك الكثير من الاثار المكتوبة في هذا المجال اسوة بمن عرف وقدر من علماء اللغة كالخليل بن احمد الفراهيدي فقد تناقل طلابه اراءه وتداولوا احكامه فيها وانتصروا للكثير من تأويلاته بشأن ما اختلف عليه من مفاهيم في النحو او الاشتقاق. وكان دائم التاكيد لكل من يسأله ان ينزع الى التاليف بان، خير اثاري في خدمة اللغة العربية تلاميذي، وكما عزز سيبويه والليث بن المظفر والاخفش مكانة الفراهيدي وحملوا اسمه عاليا في كل مكان عزز طلاب الراوي جهوده وتواصلوا بها واعتمدوها في الحجة والبرهان فكانوا الخلف الصالح للسلف الصالح بما نقلوا عنه وما رووا عن سعة علمه بكل مداخل اللغة والادب والتاريخ الادبي فكان ان طبقت شهرته الافاق وتسنم على اثرها المناصب العالية في المجالات الادارية والادبية، يؤخذ برأيه بكل صغيرة وكبيرة في مشاكل اللغة لانه ومع شدة تحمسه الى اللغة العربية وبنيتها القويمة لم يكن منغلقا فهي في نظره "كائن حي معروض لعوامل التراكيب والتجدد.. واهم علائم الحياة في اللغة تحكم عاملي التجدد والدثور في بنيتها كالانسان في عنفوان شبابه. فتستغني عن الفاظ وتراكيب وتضم الى نفسها الفاظا وتراكيب حسب ما تقضي به عوامل النشوء والارتقاء او كما يقولون حسبما يتطلبه قانون الانتخاب الطبيعي ومن هذا نعلم ان العربية اليوم غيرها بالامس". وفي داره القائمة في "كرادة مريم" في بغداد التقينا بابنه الاستاذ الاديب حارث طه الراوي ليحدثنا حديث العارف بكل شيء عن ابيه وليؤرخ لنا نشأته ويوضح لنا مواقفه من التعريب والتيسير في اللغة وغير ذلك.
"امام عسكر" في "جامع القطار"
قال: ولد والدي" "طه الراوي" عام 1890 في قرية على شاطيء الفرات تدعى "عانة" وقد سماه جدي باسم "طه" تيمنا باسم طه الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم.. وفي العاشرة من عمره اصيب بالجدري فقد على اثره عينه اليمنى الا ان ذلك زاد من رغبته في القراءة والمطالعة وكأنه يتحدى بهما ما كتب عليه.. وكان كثير الاستماع الى ما يتلى من سور القرآن الكريم وما يسمع من جدي – اي ابيه – الحاج صالح الفضيل من تفسير بعض اياته حتى استهوته بلاغة القرآن واخذت بمجامع قلبه روعته وصار بذلك همه الشاغل الذي ابعده عن لهو اترابه البريء.. وفي عام 1905 استجاب والده لرغبته في السفر الى بغداد ليواصل دراسته وهكذا التحق بمدرسة "خضر الياس" الكائنة في جانب الكرخ وسكن احدى غرفها. ثم انتقل عام 1910 الى كلية "الامام الاعظم" وفي عام 1914 اضطر الى ان ينقطع عن الدرس بسبب الحرب التي اوكلت اليه بسببها مهمة تعليم الجند فعين "امام عسكر" في "جامع القطار".
واستمر على مثل ما اراد لنفسه من ولع في اللغة وامورها يوصل من اجلها ليله بنهاره حتى صار حجة فيها لا يقبل بها بديلا.. وفي عام 1917 انخرط في دورة دار المعلمين الابتدائية واجتاز امتحاناتها بتفوق خوله ان يتسلم وظيفة مدير لمدرسة الكرخ الابتدائية في السنة ذاتها.. ثم تدرج من منصب الى منصب وفي عام 1928 عين سكرتيرا لمجلس الاعيان العراقي وفي عام 1932 انتخب عضوا فعالا في المجمع العلمي العربي في دمشق.. وقد زود "مجلة المجمع العربي" بالكثير من دراساته ومقالاته القيمة وفي عام 1937 عين ابي مديرا للمعارف.. ثم استاذا في عام 1939 في دار المعلمين. وكان ان مثل العراق في عدد من المؤتمرات والمكاتب الثقافية، فقد مثله عام 1943 في المكتب الثقافي بين مصر والعراق، وكان واحدا من ثلاثة في المهرجان الالفي لابي العلاء المعري الذي اقيم في دمشق 1944 وكان الاخران هما الجواهري والدكتور مهدي البصير. وبعد لقد توفي والدي في الحادي والعشرين من تشرين الاول عام 1946.
كيف كان موقفه من علماء جيله اللغويين
- كان شديد الاحترام لكل عطاء خير يقوم على الدراسة والرؤية والدقة ويذكر بالخير كل جهد في هذا المجال الا انه الى جانب ذلك كان شديد الغضب على من تسول له نفسه سد الابواب على اللغة بحجة الدفاع عنها وفي كتابه "تاريخ علوم اللغة العربية" الكثير من النصوص القائلة بذلك منها قوله "ان كثيرا من المتحذلقين نصبوا انفسهم منصب المهرة من الجهابذة وراحوا يخبطون خبط عشواء يبيحون الممنوع ويمنعون المباح على غير هدى. حتى ظن حملة الاقلام الذين لا علم لهم بدقائق اللغة ان هذه اللغة اصبحت داخل سياج لا يمكن اقتحامه بسبب ما يصوره لهم اولئك المتحذلقون الذين اساؤوا الى اللغة الكريمة من حيث يزعمون انهم يحسنون اليها" ثم يردف ذلك بقوله: "فكانت معرتهم هذه احدى الرزايا التي اصيبت بها لغتنا الكريمة". ولذلك كان يقول بضرورة تفتح اللغة ضمن اصولها في الاشتقاق والنحت والقلب والابدال بحيث يكون ما يدخل اليها جزءا منها بسبب من قابليتها تلك وهو من هذه الزاوية ينظر الى التعريب نظرة المتفائل به، فالتعريب بالنسبة للغة العربية احد عوامل توسعها.. ان لغتنا العزيزة فهي والحمد لله من اقوى اللغات على الهضم والتمثيل. تنتزع اللفظة من اية لغة شاءت ثم تزدردها فلا تبرح ان تهضمها وتمثلها اي تمثيل وتجري عليها تصاريفها وتصبح كانها في الصميم منها". ان هذا الفهم الذي اوصله الى الربط بين المفردة والحياة اقام عليه الاساس الذي يجب ان تعتمده اية لغة تريد ان تجدد نفسها باستمرار ومن لايفهم اللغة كذلك انما هو داعية لقتلها وتجميدها.
اللغة الوسطى
- وماذا بخصوص تيسير اللغة للناشئة، فالطالب منا لم يعد مجال قراءته مقتصرا على اللغة بل على العديد من العلوم مما يستوجب اعادة النظر في امر تيسيرها بالشكل الذي يواكب العصر.. فماذا قال عن ذلك..؟
- لقد كانت له مواقف مهمة في هذا الحيز ومن بعد الى كتابه "تاريخ علوم اللغة العربية" يجد الكثير.. وهو ينحو باللائمة على كل من تغريه نفسه للنيل منها بحجة وعورتها وصعوبتها ليبيح لنفسه القول بالتجول الى العامية او الكتابة باللاتينية لغرض مشبوه في النفس، كما ينحو باللائمة على من يتجاهل الظروف المحيطة بقارئ اللغة اليوم من الطلاب فيسعى لان يراكم المواد فوق بعضها البعض متجاهلا الامكانات المتوافرة لذلك، فاللغة العربية ليست وعرة المسالك شأنها شأن غيرها وان على مصلحيها ان يذللوا ما فيها من مصاعب ومن لايذهب هذا المذهب سيمسخ اللغة ويهدمها.
وقد تعرض لموضوع تيسير اللغة في بحث كامل يقول في احدى فقراته بضرورة "القيام بوضع كتب للناشئين على نمط عصري تتوفر فيها جميع اصول التعليم الحديث.. وهذا يقضي باعادة النظر في بعض علوم اللغة العربية فيزاد فيها وينقص منها كما تقضي بذلك طبيعة العلوم في العصر الحاضر".
وفي دراسة له عن "اللغة الوسطى" التي تقوم بين اللغة المعربة واللغة العامية، لها من الاولى عروبة الفاظها وصحة تراكيبها ولها من الثانية التسكين في اواخر الكلمات، يرى بامكان الاخذ بها وسيلة للتفاهم فيقول في ذلك "يجب الاعتصام باللغة المعربة في التدوين والنشر والاذاعة وان يتخذوا من اللغة الوسطى اداة للتفاهم بين اهل المعرفة من ابناء العروبة في مشارق الارض ومغاربها لانها اللغة الجامعة فان التفاهم بالمعرب من القول قد يعسر اليوم على جمهرة المتعلمين بله من دونهم من ابناء هذه اللغة فعلينا ان ننتفع باللغة الوسطى في سبل المشافهة والمحادثة".
ولكن كيف السبيل لتثبيت اصول لهذه اللغة الوسطى
- لقد تعرض الى ذلك بمنهجية علمية فطلب وضع مخطط يكون من مهمته تيسير نشرها ويقوم على عشر نقاط كوضع الكتب المبسطة للاطفال وفرض التعليم الاجباري والاكثار من المحاضرات وتوجيه الاغاني اليها وتنشيط حركة الطباعة.. والاكثار من المكتبات العامة وعقد المؤتمرات الدورية في الاقطار العربية.. الى غير ذلك.
والنحو
- ان دراسته المنشورة في عدد من اعداد مجلة "الثقافة" القاهرية عن "نظرة في كتب النحو" ودراسته المستفيضة المنشورة في مجلة" المجمع العلمي العربي عام 1936 عن موضوع اللغة توضحان موقفه بهذا الشأن، الى جانب كتابه المشهور "نظرات في اللغة والنحو" وكل هذه الدراسات تؤكد على ضرورة التدرج في اعطاء المعلومات النحوية بحيث يستند بعضها على بعض بشكل مترابط ومتكامل "وانه لايجوز التعرض لايضاح مسألة ما الا بعد الاعداد لها وتوضيح العناصر اللازمة لايضاحها قبل الاقدام عليه فلا يبحث عن المتعدى واللازم مثلا الا بعد معرفة النصب والمفاعيل ولا عن المعلوم والمجهول الا بعد معرفة الفاعل وما ينوب عنه". واننا في هذه العجالة يصعب علينا ان نلخص كل ارائه الا انني يمكنني ان اؤكد بان والدي كان ذا موقف شامل يؤمن بضرورة المحافظة على اللغة سليمة معافاة مع الاخذ بكل جديد بوطدها ان كان ذلك في مجال الصرف او النحو.. ولمن يريد التوسع في الالمام بمنهجية في دراسة اللغة العربية يمكنه الرجوع الى كتابه "نظرات في اللغة والنحو"
أين الشهامة
إثر الغزو الإيطالي لطرابلس الغرب عام 1911
أيـن الشهـامةُ، أيـن العــــــدل والشَّمَمُ؟ يـا أمةً غضبتْ مـن جَوْرِهـــــــــــا الأممُ
يـا للـمـروءة مـن قـومٍ زعــــــــــانفةٍ لؤم الطبـاع لهـم بـيـن الـــــــورى عَلَم
طـاشـت حـلـومهـمُ - والـبـغـي مـــــرتعه وخْمٌ - فعـمَّت سمـاء الـــــــــمغرب الظُّلَم
فـالسلـم مضطربٌ، والأمـــــــــــن مستلَبٌ والـبَرُّ محتدمٌ، والـبحــــــــــــر مضطرم
أنَّى فررتـم ونـار الغـيظ تحـرقُكــــــــم والـذلّ يـتبعكــــــــــم، والخَذْل والندم
تُقتِّلـون شـيـوخًا مـا لهــــــــــــا وَزَرٌ وصـبـيةً ونسـاءً مـا لهـــــــــــــا عِصَم
يـا للفـظاعة مـن رومـا ومــــــــا صنعتْ ضلَّت بنـوهـا وعـن سُبْل الرشـاد عَمــــــوا
لـو كـان فـيكـم بنـي الطلـيـان مـن شـرفٍ لـم تثأروا مـن ضعـافٍ شبْهُهـا النّعــــــم
هلاّ صـبرتـم عـلى خطبٍ ألـمَّ بكــــــــــم والسـيفُ يعـمـل، والأرمـاح تزدحــــــــم
والجندُ تقتلكـم، والعُرْب تذبحُكــــــــــم والـمـوت يـخطب، والهـامــــــــات تَنْحطم
لـيس الشجـاعةُ قتلَ الشِّيب مـــــــــن أممٍ عـارٌ بأن تُقتلَ الأطفـالُ والــــــــــحُرَم
جئتـم بجـيشكـم الجـرّار يحـرسُه الْـــــــ أُسطـول تُقذَف مـنه النـار والـــــــــحُمم
فكـان مـا كـان ممـا فلَّ عزمَكـــــــــــمُ فـالجـمع مفتـرقٌ، والجـيش مـنهــــــــزم
وعـدتُمُ وغَمـام الخذْلِ عَمَّكـــــــــــــــمُ وأُبْتـمُ ورمـالُ الــــــــــــــمقفِرات دم
تـركتـمُ الجـيش للغربـــــــــــان تَطْعَمُه فعـاف مأكلَه الغربـــــــــــــان والرَّخَم
مـا ذي الجـبـانةُ يـا طلـيــــانُ لا رُفعتْ مـن بعـدهـا لكـمُ نحـو العـلا قـــــــمم
فـنحن قـومٌ إذا مـا استُغْضبـوا غضبـــــوا لكـنهـم يكرهـون الظلـمَ إنْ ظُلـمـــــــوا
فـالعـدلُ شـيـمتُنـا، والـبأس عـادتُنــــا والـديـنُ مـرشدُنـا، والـــــــحِلْم والشِّيَم
جـاؤوا بأغنـامهـم تـرعى بسـاحتـنــــــا وإننـا أُسْدُ ذاك الـبرِّ لـو عـلـمـــــــوا
مـات الرِّعـاء ُوبـادتْ تلكـــــــــمُ الغنم