الصفار

(الصفار) مهنة موصلية تراثية في طريقها إلى الاندثار

مهنة الصفارة من المهن المعروفة في منطقتنا حيث كانت شعوب المنطقة تستخدم النحاس في فترة من الزمن كمادة أساسية في صناعة الأدوات المنزلية وخصوصا أواني الطبخ، ومدينة الموصل واحدة من المدن التي اشتهرت بصناعة النحاس، الذي يسمى شعبيا في العراق بـ (الصفر) نسبة للونه الأصفر الذهبي البراق،

وقد وقعت يدي على كتاب (التحف المعدنية في الموصل) ونقلت منه ولكن باختصار شديد غير بعيد عن المعنى الحقيقي. كتب الباحث الغربي (كونل) في كتابه (الفن الإسلامي)، تحت عنوان التحف المعدنية الإسلامية، وأشار إلى أن الموصل تولت الزعامة في صناعة المعادن خلال القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي). كما أشار إلى أن هناك مدنا أخرى ساهمت في هذه الصناعات والنهضة فيها مثل (بغداد وحلب ودمشق والقاهرة).

كما تناول باحثون آخرون مثل (ميجون وكونت وكرسي). في كتب عديدة النهضة التي كانت عليها الموصل في تلك الحقبة من الزمن، وأشاروا ايضا إلى أشهر وأمهر الصناع الموصليين من أمثال (علي بن حسين بن محمد الموصلي، وعلي بن محمود الموصلي، وعلي بن عمر بن ابراهيم الموصلي) وغيرهم كثير من أمهر الصفارين الذين خلدتهم الكتب وهم كثيرون.

ولتسليط الضوء على هذه المهنة، والى أين وصلت بعد تراجع استخدام النحاس، قمت بزيارة سوق الصفارين في سوق الموصل القديم ، ولدى بحثي عن الصفارين الذين يعملون في صناعة الأواني والحاجيات النحاسية، تبين لي أنهم قليلون، ومنهم أولاد السيد (علي السيد حسن المشهداني) الصفار الشهير، كل من السيد (محمد والسيد أحمد). فكان لي معهم هذا الحوار:

الحوار_ بدايةً، حدثنا عن أوليات هذه المهنة.

- هذه المهنة تتعلق بمعدن النحاس والذي يسمى باللغة المحلية العراقية(الصفر) نسبة إلى لونه الأصفر، والموصل تفتخر بسوقها المعروف بسوق الصفارين وفي بغداد يسمى سوق الصفافير، فالموصل ولغاية فترة الستينيات من القرن الماضي كانت الرائدة أو نستطيع القول بأنها من المدن الرائدة في المنطقة في هذه المهنة الجميلة، حيث شهدت الموصل في عدة فترات زمنية حركات اهتمام بالفن الموصلي النحاسي من أواني موصلية شهيرة ونتاجات فاقت بجودتها كل نتاجات المدن الأخرى مثل بغداد ودمشق والقاهرة وحلب وغيرها، والتعامل مع هذا المعدن قاسٍ وجميل في نفس الوقت، فالقسوة تأتي من كون المعدن يحتاج لقوة في التعامل من نار قوية؛ وطرق بمطارق حديدية، والنعومة تأتي من النتائج الجميلة التي تخرج من الأنامل المبدعة لمحترفي المهنة وأساتذتها.

الحوارـ منذ متى تعمل في هذه المهنة؟.

-أنا وأخي احمد نعمل في هذا المحل منذ نعومة أظفارنا، فلقد ورثنا المهنة عن والدنا السيد علي المشهداني الصفار(رحمه الله)، وهو بدوره ورث المهنة عن والده صعودا إلى جدنا الخامس، أي منذ أكثر من قرنين ونصف القرن من الزمن، فتحديدا، منذ العام 1171هـ وهو العام الذي تم الانتهاء فيه من بناء جامع الباشا الذي بناه والي الموصل آنذاك حسين باشا الجليلي رحمه الله تعالى، بنى عدة محلات بجانب الجامع وجعلها وقفا له، ومحلنا الحالي هو أحد تلك المحلات، ونحن حاولنا تجديد المحل عدة مرات ولكن مديرية آثار نينوى ولجنة الحفاظ على التراث منعتانا من ذلك. ونحن مانزال نعمل فيه بعمل الآباء والأجداد حفاظاً منا على استمرارية هذه المهنة المتجذرة في عروقنا وفي حنايا وجنبات الموصل القديمة. الحوارـ ما هي الأدوات (العدد) التي تستخدمونها في العمل؟.

المطرقة بأنواعها؛ ولها في مصطلحات المهنة أسماء، منها، (الجمعة، الناريجة، التنعيم، الطخماخ، التاتنبة) ولكل منها دور في عمل الصفار، وساوضح لك بعضا من ادوارها على النحو التالي:

الجمعة، هذه المطرقة تستخدم لطرق النحاس وجمعه لتكوين الشكل الأولي للأواني النحاسية.

الناريجة، تستخدم لقص النحاس في الأماكن التي لا يصل إليها مقص المعادن.

مطرقة التنعيم، أو ما تسمى بمطرقة التطريق، وهي بأحجام متنوعة من الصغيرة إلى الكبيرة تستخدم لتنعيم الآنية النحاسية والتي تترك علاماتها في الإناء.

التاتنبة، ويأتي دورها بعد مطرقة التنعيم، وهي أيضا تستخدم للأعمال النهائية.

الطخماخ الخشبي، ويستخدم لتعديل الأواني النحاسية بشكل سلس إن أصابها اعوجاج.

2. السنادين بأنواعها. منها السندان الأعوج والسندان المدور وسندان السبائك وسندان المنكيل.

3. المقص الحديدي.

4. آلة الناي والدرناي، وهي عبارة عن قضيب حديدي مرتكز على محمل خشبي، يجلس الصفار فوقها من أجل العمل على طرق المعادن.

5. ومن الآلات القديمة والمندثرة تقريبا وهي (قالب البراجيم، والزمبة، والحاصورة، وغيرها.

أما الآن فلقد حلت الأدوات الكهربائية والآلات الحديثة محل بعض من تلك الأدوات القديمة. ومن المهن المتعلقة بمهنة الصفار، والتي تعاني من الاضمحلال تقريبا، هي مهنة المبيض.

الحوارـ ذكرت لنا (المبيض) فمن هو هذا المبيض؟.

- المبيض هو القائم بطلي الأواني النحاسية بمادة البياض أو ما يسمى علميا بـ( القصدير)، وكان هذا العمل يجري يدويا وبطرق قديمة، أما الآن فهذه المهنة تتلاشى تدريجيا، والمتبقي من المبيضين في الموصل واحدٌ فقط وهو (صديق البياض) وهو الآن كبير السن ومايزال يعمل في هذه المهنة في داره وبشكل ضيق.

الحوارـ مَن هُم أشهر الصفارين القدماء والحاليين في الموصل؟.

-كانت الموصل فيما سبق من الزمان تفخر بمهنها العريقة والمهمة، ومن ضمنها مهنة الصفارين، فلقد تجاوز عدد الصفارين في الموصل الـ 1000 صفار في فترة أوائل القرن الماضي إلى منتصفه. ومن أشهرهم على الإطلاق.

. سعيد بن سليمان الصفار، وقد أبدع في صناعة (المعدسة وطاسة الخشخاشة).

. محمد الكردي الصفار، وقد أبدع في صناعة الإبريق الموصلي الشهير والمنقل.

. محمد بن الحاج شنشولة، وقد أبدع أيضا في صناعة المعدسة.

. محمود البهاري، أبدع في صناعة الابريق الموصلي.

. ايوب الحسن، اشتهر بإبداعه في صناعة الحمامات الموصلية النحاسية القديمة.

أما الآن وبعد انحسار عدد الصفارين بسبب تقاعس البعض عن العمل بهذه المهنة، أو بسبب تقدم البعض في الدراسة وتفرغ البعض للوظائف الحكومية وغير ذلك من الأسباب.

الموجود من الصفارين الآن ينحسر عددهم في الأسماء التالية:

. أولاد سيد علي السيد حسن المشهداني الصفار اللذين هما نحن انا وأخي أحمد.

. الحاج جاسم قاسم الصفار.

. الحاج يونس الصفار (وهو الآن يعاني من المرض الذي أقعده عن العمل).

. السيد غانم بن محمود الصفار والمعروف بين الصفارين بـ(غانم البهاري) وأولاده.

ومن المفاجآت السارة في هذه الأثناء التي نذكر فيها هؤلاء الصفارين القدماء من أبناء الموصل مر بنا أحد ابناء السيد غانم بن محمود الصفار وأسمه سعد، فانظم إلى مائدة الحوار حول هذا الموضوع، حيث سألته:

الحوارـ منذ متى وأنتم تعملون في هذه المهنة؟.

- نحن من العوائل القديمة التي عملت بهذه المهنة منذ أكثر من قرنين من الزمن، وما نزال في هذه المهنة حفاظا منا على عراقتها، وكان محلنا في في سوق الصفارين لغاية بداية ثمانينيات القرن الماضي لننتقل بعد ذلك إلى منطقة باب الجسر ومازلنا نعمل هناك أنا وإخوتي رعد ومعد، لحد الآن، نقوم بصنع القدور النحاسية الخاصة لعمل الحلويات.

الحوارـ ما هي معاناة أصحاب المهنة في هذه المرحلة؟.

-سوق الصفارين متعلق بشكل كبير بالسياحة، حيث أن الكثير من المنتجات يقتنيها السواح ليأخذوها إلى بلدانهم عند العودة، وهذا ما كانت عليه المدينة وخاصة قبل فترة الحروب التي شهدها العراق منذ أربعة عقود من الزمن وما يزال الوضع على ما هو عليه. أما الآن فنحن نعمل لصالح السوق المحلية، والسوق المحلية استهلاكها محدود ولا يكاد يفي بالغرض، وأيضاً المواد الخام التي تتعلق بهذه المهنة أصبحت قليلة جدا، وغيرها من الأمور التي يعاني منها سائر أبناء المدينة.

وأطلب من الجهات المسؤولة في الحكومة المحلية والمركزية، والمعنيين بالسياحة والتراث العراقي ان يدعموا هذه المهنة باعتبارها معلما سياحيا وتراثيا قد يئول إلى الاندثار مع مرور الايام، بسبب تراجع الاستخدام للنحاس من حيث الاستهلاك المحلي، وهو ما سيؤدي الى توقف من تبقى من الصفارين عن العمل؛ ومن ثم ضياع الحرفة التراثية إلى الأبد.

المصدر