سوق الهرج

سوق الهرج ببغداد.. بضاعة قديمة ونادرة وفيها ما لا يخطر في البال , غنت أم كلثوم في أحد مقاهيها.. وتاريخها يعود إلى العصر العباسي

في بغداد وعندما تحتاج إلى أي شيء، بدءا بالإبرة مرورا بكل مستلزمات المنزل والبناء وأكثر الأجهزة الإلكترونية تعقيدا وحتى الأعمال الفنية والأنتيكات، فلا بد من أن تتجه إلى سوق الهرج.

و«الهرج» تعني باللهجة العراقية الدارجة الصخب والفوضى، وهذا التوصيف ينطبق بالضبط على واحدة من أقدم أسواق بغداد «سوق الهرج» التي يمتد تاريخها إلى عصر الحكم العثماني للعراق، أي أن عمرها يتجاوز الـ300 عام، وتقع قريبا من حي الميدان بجانب الرصافة من بغداد متفرعة عن أول شارع شق في العاصمة العراقية «شارع الرشيد».

سوق الهرج

وليس شرطا أن يكون الداخل لهذه السوق لأغراض البحث عما يبتغيه من حاجة لم ولن يجدها في مكان آخر، بل إن المرور بسوق الهرج، دخولا من شارع الرشيد وخروجا من جهة الميدان، يشكل متعة حقيقية، فالتجوال بين كل ما هو مستعمل من أجهزة راديو (مذياع) وتلفزيون وغرامافون وأجهزة تسجيل صوتي وكاميرات وعارضات أفلام سينمائية قديمة، وقطع أثاث تحولت إلى أنتيكات ولوحات فنية ومنحوتات ومكائن خياطة بيتية ولوازم بناء وغيرها من الأغراض القديمة والمستعملة، سوف يجبر أي شخص هناك على التوقف والتأمل.. ومن ثم الشراء، وباختصار فإن الزائر لهذه السوق سوف يجد كل ما هو نادر وغريب وما لا يخطر ببال أحد وما لا يجده في أي سوق أخرى في العراق، على أن هذا المشهد البانورامي العريض والممتد إلى عمق السوق المسقفة بألواح معدنية ليس صامتا على الإطلاق إذ أن هناك من الباعة من يطلق العنان لصوته عاليا مناديا للإعلان عن بضاعته ومنبها إلى غرابة أو أهمية ما يعرضه للبيع.

ورغم أن البعض يرجع تأريخ بناء هذه السوق إلى عهد الدولة العثمانية حيث شق الوالي العثماني ناظم باشا شارعا سمي باسم شارع (خليل باشا جاده سي) على اسم خليل باشا حاكم بغداد عام 1910، ثم سمي باسم شارع الرشيد، وسميت السوق باسم سوق الميدان وهي التسمية العربية القديمة لها، وأقدم من التسمية التركية (سوق هرج)، فإن غالبية من مؤرخي بغداد يؤكدون أن تاريخ السوق تعود إلى نهايات العصر العباسي، لا سيما أنها قريبة من القصر العباسي ومن قصر إحدى زوجات هارون الرشيد (أم هانئ) الذي كان الملك فيصل الأول قد اتخذه قصرا له ومن ثم تحول إلى (قصر الثقافة والفنون).

لهذا فإن سوق هرج تعد بحق أحد أبرز معلم من معالم مدينة بغداد. وكان «في مكانها مسجد تاريخي يعرف بجامع القبلانية، اندرس أثره ولم يبق من الجامع سوى الحجرة المطلة على سوق المغازجية والتي تضم رفاتين من علماء بغداد هما: الإمام أحمد القدوري المتوفى عام 428 هـجرية، صاحب كتاب (نور الإيضاح)، وهو كتاب في الفقه الحنفي، والإمام محمد الوتري صاحب القصائد الوترية» حسبما توضح الموسوعة العربية.

وظائفه

سوق الهرج عام 1942

وإذا كانت غالبية أسواق بغداد التقليدية قد اختفت معالمها أو وظائفها، مثل سوق الصفافير أو أسواق شارع الرشيد، فإن سوق الهرج بقيت متمسكة بطبيعتها وبطبيعة المواد التي تتداولها، يقول عبد الجبار وهو صاحب محل لبيع مكائن الخياطة المستعملة «صارت محاولات، ولا تزال، لغزو السوق من قبل طارئين أرادوا تغيير طبيعتها وتحويلها مثلا لبيع الأثاث الحديثة أو المواد المكتبية، أو محلات لبيع المواد الاحتياطية للسيارات لكننا قاومنا هذه المحاولات ورفضنا بيع محلاتنا أو استئجارها للآخرين بأسعار مغرية»، موضحا أن «والدي كان يعمل بهذا المحل ونحن عشنا على ما يحصل عليه من موارد، وأنا أواصل مهمته».

يقول عبد الجبار إن «بيع مكائن الخياطة القديمة في انحسار لكن هناك من يهتم بها ويبحث عنها خاصة مكائن سنجر الشهيرة، فنحن نشتريها من عوائل ما عادت بحاجة إليها، وهناك من يبحث عن هذه المكائن سواء لاستخدامها أو للاحتفاظ بها».

وعن مصادر مواد وبضاعة السوق، يقول محمد حسن الذي يهتم بشراء وبيع أجهزة الراديو القديمة، تلك الأجهزة التي تبدو مثل صناديق مزخرفة وجذابة: «هناك بعض العوائل التي تحتفظ بهذه الأجهزة وملت منها أو تبيعها لحاجتها للمال أو لدواعي السفر، وهناك أشخاص يدورون في الأحياء السكنية، الشعبية منها خاصة، ينادون بأصواتهم العالية بشراء كل ما هو قديم (عتيق) ولازمتهم الشهيرة ومنذ عشرات السنين هي عتيق (عتيك) للبيع، وهؤلاء يشترون كل شيء مستعمل وبأسعار زهيدة، إذ أن غالبية العوائل تريد التخلص من الحاجيات القديمة، وهؤلاء يبيعون ما يشترونه هنا، سواء لأصحاب المحلات وحسب الاختصاص أو أنهم يبيعونها مباشرة».

ويشير محمد حسن إلى أجهزة راديو قديمة يعود تاريخ صناعتها إلى نهاية الثلاثينات أو الأربعينات من القرن الماضي وتحمل علامات (باي) و(فيلبس) وغيرهما من العلامات التجارية التي كانت أو ما زالت شائعة، موضحا أن «غالبية هذه الأجهزة تصلنا وهي غير صالحة للعمل بسبب قدمها وعدم الاهتمام بصيانتها ونحن نقوم بإصلاحها وصيانتها، رغم أن هناك بعض الزبائن لا يهتمون كونها صالحة للعمل أو لا إذ يستخدمونها كقطعة ديكور ليس إلا، كما أن الإقبال كبير على أجهزة الغرامافون والأسطوانات السوداء القديمة، خاصة تلك الأجهزة التي تعمل باليد وليس بالطاقة الكهربائية، وأيضا هذه تستخدم كقطع ديكور».

وفي جولة «الشرق الأوسط» في أرجاء السوق تعرفنا على أبو علي الساعاتي، ومحله الصغير واحد من العلامات المميزة لسوق هرج، إذ يعرض أقدم الساعات الجدارية واليدوية، كما أنه من أمهر «مصلحي الساعات»، يقول «توارثت هذه المهنة عن والدي الذي كان مختصا بشراء وبيع وتصليح ساعات الجيب، قبل انتشار الساعات اليدوية بكثرة»، يرينا بعض الساعات القديمة التي تحمل تواقيع من صنعها أو صممها «ساعات أصلية وقوية وتستحق الاحترام»، يقول، معترضا على «الساعات الحديثة التي هي ساعات للاستخدام مرة واحدة فقط، أنا لا أعترف بهذه الساعات التي ليست فيها ماكنة وإنما جهاز إلكتروني صغير وتعمل على البطارية، وهذا النوع من الساعات لا يمكن إصلاحه إذا تعطل بل نرميه في المزابل».

ويكشف لنا أبو علي عن الساعة التي يحملها بيده «هذه ساعة أولما الأصلية، إنها تعمل منذ 30 سنة ولم تتعرض للعطل، وعندي ساعات قديمة تعد من التحف النادرة، فهناك من يجمع هذه الساعات ويشتريها بأسعار غالية».

للأثاث مكان مهم في هذه السوق، خاصة الأثاث القديم، الأسرة والأرائك والكراسي وخزانات الملابس ومناضد ومكاتب مصنوعة من خشب الأبنوس أو البلوط وتبدو مثل تحف فنية بعد أن يتم إعادة ترميمها وصيانتها، وحسب صفاء الجنابي الذي يصف نفسه باعتباره زبونا مزمنا لسوق هرج، فإن «هذه القطع من الأثاث في انحسار دائم وأسعارها ترتفع باستمرار لأنها بالفعل تحولت إلى قطع أنتيك وبعد فترة وجيزة سيكون من الصعب الحصول على قطع شبيهة لها».

ويضيف الجنابي قائلا: «أنا في العادة أزور السوق باستمرار واشتري ما أجده بالفعل يستحق، خاصة قطع الأثاث أو اللوحات الفنية أو أجهزة الراديو أو التلفزيون القديمة، لكن أغلب زياراتي تتم يوم الجمعة حيث تنشط السوق وتزدحم بالبضاعة ويكون هنا ما يشبه المزادات العلنية لبعض القطع الفنية والأنتيكات».

أما عن سبب جمعه لهذه القطع، فيقول: «ببساطة أنا أشتريها وأحتفظ بها لفترة ثم أبيعها بأسعار أعلى، وهذا جزء من اهتماماتي الشخصية والتجارية، لكن المشكلة أني أحتفظ في الغالب ببعض القطع، الفنية خاصة، وبذلك لم تعد تجارتي مربحة».

كانت سوق الهرج تضم واحدة من أشهر مقاهي بغداد التراثية (مقهى البلدية) الذي غنت فيه أم كلثوم عام 1935، عندما قدمت إلى بغداد، والمقهى علامة من علامات السوق التاريخية التي يتذكرها أصحاب المحلات وهم يتداولون قصصا عنها سمعوها من آبائهم أو أجدادهم، وتخليدا لهذه الحادثة أقيم قريبا من السوق مقهى (كوكب الشرق أم كلثوم) الشهير والذي يستمع رواده للأغاني النادرة لهذه الفنانة الكبيرة الراحلة.

بقي أن نذكر أن سوق هرج تتفرع منها وتقود إليها أزقة تضم دورا للمطابع وبيوتا للخشب في محلة الحيدرخانة، ومع امتداد سوق السراي، وتبدأ معالم السوق من جامع الحيدرخانة في شارع الرشيد من جهته الشمالية حيث المقاهي البغدادية التاريخية القديمة وسوق السراي المتخصصة في بيع الكتب، لغاية مطابع الصحف والجرائد العراقية القديمة كصحيفة «الأحرار» و«البلاد».

المصدر

موقع الشرق الاوسط