طه باقر

الاستاذ طه باقر

طه باقر (1912 - 28 فبراير 1984) عالم اثار، ولد في العراق في محافظة بابل مدينة الحلة. اكمل دراسته المتوسطة وكان من الطلبة الاوائل لذلك فانه انتقل لاكمال دراسته وعلى نفقة وزارة المعارف إلى الولايات المتحدة لدراسة علم الاثار في المعهد الشرقي في جامعة شيكاغو مع زميله فؤاد سفر بعد نيلهم شهادة ماتريكوليشن Matriculation الإنجليزية في مدينة صفد الفلسطينية وبعد ذلك نقل ومن معه من طلاب البعثة إلى الجامعة الأمريكية في بيروت لاجتياز مرحلة السوفومور Sophomore وهي عبارة عن مرحلة دراسية تحضيرية وبعد تلك المرحلة سافر إلى الولايات المتحدة الاميريكية لاكمال دراسة علم الآثار وبعد مدة اربع سنوات حصل على شهادة البكالوريوس والماجستير وكانت العودة عام 1938. نال لقب الاستاذية من جامعة بغداد عام 1959 م .

العلامة طه باقر رائد من رواد علم الاثار في العالم ومؤلفاته تعني مصدراً مهماً من مصادر علم الآثار والحضارات والتاريخ القديم. ورغم كونه أستاذاً في كلية الآداب ودار المعلمين العالية لكنه ظل متعلقاً بالعمل الميداني في مجال التحري والتنقيب فترأس بعثة للتنقيب في موقع (تل الدير) وعقرقوف أعوام 1941 - 1947. كما وأشرف على التنقيب في (تل حرمل) و(تل الضباعي) في بغداد 1945 - 1961 وأشرف على التنقيبات في حوض سد دوكان وسد دربندخان أعوام 1956 - 1961. إضافة إلى أعمال الصيانة الأثرية في مدينة بابل سنة 1958 - 1963. قدم طه باقر مئات البحوث المنشورة وعمل رئيساً لتحرير مجلة سومر.

المناصب والوظائف

في مديرية الاثار العراقية 1938 - 1963

خبير فني 1938 -1941 وخلال هذه الفترة وفي آذار عام 1939 دعي إلى الخدمة العسكرية ضباط احتياط

امين المتحف العراقي من 1941 - 1953م

معاون مدير الاثار العام 1953 - 1958

مفتش التنقيبات العام لفترة 1958

مدير الاثار العام 1958 - 1963

من مؤسسي مجلة سومر وعضوية هيئة تحريرها من عام 1945 -1958 م وترأس تحريرها من عام 1958 -1963

في ليبيا

سافر إلى ليبيا 1965 - 1970

عمل مستشاراً في مصلحة الآثار الليبية 1965 - 1970

عمل استاذ في الجامعة الليبية 1965 - 1970

في جامعة بغداد

تدريس مواضيع التاريخ القديم والحضارة في كلية التربية دار المعلمين العالية سابقاً، من عام 1941 -1960

تدريس مواضيع التاريخ القديم والحضارة واللغات القديمة (الاكدية والسومرية) في قسم الاثار كلية الاداب - جامعة بغداد (1951 – 1963)

عضو المجلس التأسيسي جامعة بغداد 1957 - 1958

عضو مجلس جامعة بغداد 1960 -1963.

نائب رئيس جامعة بغداد 1961 -1963 ثم احيل على التقاعد في 8 شباط 1963

تمت اعادة تعيينه بمرتبة استاذ في جامعة بغداد كلية الاداب عام 1970 -1978 حتى تقاعده وخلال هذه السنوات كان غزيرالنتاج العلمي والتأليف ولا مجال هنا إلى ذكر مؤلفاته الكثيرة ولكن من أهمها كتاب مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة بجزئية الأول (بلاد الرافدين) والثاني وادي النيل الأخرى مقدمة في أدب العراق القديم وترجمته لملحمة كلكامش إلى العربية.

منذ عام 1980 ساءت حالته الصحية سافر على اثرها إلى بريطانيا للعلاج الا انه توفي بعد عودته إلى الوطن وكان ذلك يوم 28/2 /1984. منحه اتحاد الآثاريين العرب في القاهرة درع الاتحاد عام 2002 م لما قدمه من خدمات جليلة في حقل الآثار.

لطه باقر جهد مميز في النظرة إلى الشخصية الوطنية من خلال سعيه الدائب إلى كشف عظمة ما قدمه العراقي القديم لللبشرية عبر عصوره الحضارية المتعددة، وتجلى ذلك في ترجمته كتاب (من الواح سومر) الذي الفه الاختصاصي في المباحث السومرية الروسي الأصل الأمريكي الجنسية (صموئيل كريمر) وكلف طه باقر بترجمة هذا المؤلف وتناول المؤلف في كل فصوله منجز الحضارة الإنسانية مما قدمه العراقيون من اول مدرسة، اول برلمان، اول مؤرخ ومشروع دستور، واول التقاويم الزراعية، اول آراء في اصل الكون، آراء في التوراة، الحب، فهارس الكتب... ومن المعروف علمياً ان النمو السليم للشخصية الوطنية يتطلب معرفة ابعادها الزمنية في الماضي والحاضر والمستقبل بوجه الانكسارات المحتملة.

قال طه باقر في ملحمة كلكامش:

من الارشيف
(لعلني لا ابالغ إذا قلت انه لو لم ياتنا من حضارة وادي الرافدين من منجزاتها وعلومها ومتونها شيء سوى هذه الملحمة لكانت جديرة ان تتبوأ تلك الحضارة مكانة سامية بين الحضارات العالمية القديمة ).

ان الملحمة تعطي مفاتيح مهمة لفهم شخصية الفرد العراقي، وحركة المجتمع الرافديني. لقد قدم وكشف جوانب مهمة في البناء السايكولوجي للمواطن العراقي القديم.

توفي عام 1984بعد مرض عضال .

لقد ترك لنا (طه باقر) عشرين مطبوعاً بلغات متعددة وتمتاز كلها بالثراء العلمي وبلاغة الأسلوب وجماله، لقد اثرت المكتبة العربية والعالمية بمؤلفات لها قيمة كبيرة. وكان منجماً عراقياً في معارفه وتشوفاته ومن درر الإبداع الحريصه على حضارة وادي الرافدين.

عراقيون يحتفي بقارىء الطين العراقي العلامة طه باقر رمزا من رموز ثقافتنا الوطنية واحد عشاق العراق من الذين افنوا حياتهم في البحث عن تراث هذا البلد وتقديمه للعالم .. 25عاما هي السنوات التي غاب فيها طه باقر ..غاب جسدا لكن افكاره ورؤاة ومنجزاته لاتزال شامخه تشير الى عظمة الانجاز العراقي .. وكتب الاستاذ مجيد ناشىء شذرات في حياة البابلي طه باقر ذكر فيها : تتفاخر الامم والشعوب بمبدعيها وعلمائها ومفكريها وتعمل من اجل ان يبقوا في الذاكرة ، ولكي يكونوا منارة تسترشد بها الاجيال ، ويكونوا معينا لهم في دروب المعرفه من اجل اضافه ابداع جديد لان مسيرة الحضارة والتقدم يصنعها الانسان المبدع . وهاهو الفيلسوف الروماني الشهير سيسرو يؤكد ويقول : (اذا كنت لاتعرف شيئا مما حدث قبل ولادتك، فلن تكبر ابدا) لذا فأن الحديث عن العظماء من مبدعي وادي الرافدين ما هو الا تذكير للاجيال لكي تتواصل مع هذا الابداع، ولكي تسهم في العطاء في شتى المجالات، هذا ما حفزنا لكتابه هذا الموضوع عن العالم الجليل المرحوم الاستاذ طه باقر .

طوبى للمبدعين الذين تركوا بصماتهم واضحه على مسيرة الفكر والابداع في وادي الرافدين في مختلف المجالات . طوبى لكل عمل خير ينفع الانسان في مختلف العصور والازمان .

ومن اشتغالات العلامة باقر الطويلة في الرقم الطينية المسمارية تجمعت لديه مجموعة كبيرة من المفردات اللغوية الواردة في تلك النصوص في اللغة السومرية والاكدية مما نجده الآن متداولا في لغتنا العربية وفي معاجمها التي تؤصلها على انها اعجمية او دخيلة وهي تخص مختلف شؤون الحياة كالمعاملات التجارية واسماء الالآت وادوات الزراعة واسماء مجموعة مهمة من الاشجار والنباتات والاعشاب الطبية وبعضها كلمات يقتصر استعمالها على اللهجة العامية العراقية، ولهذا فأن تلك المفردات استحقت ان تكون واحدة من اهم مؤلفات العلامة في كتابه الموسوم (( من تراثنا اللغوي القديم ما يسمى في العربية بالدخيل )) الذي يعد واحدا من المؤلفات الطريفة والنادرة في حقل الدراسات اللغوية المقارنة. وفي رحلة اثارية يأخذنا المرحوم باقر مع زميله المرحوم الاستاذ فؤاد سفر في ست كراسات شملت مدن شمال العراق وغربه عرفنا فيها على كل المناطق الأثرية الواقعة في تلك المدن وهي من المؤلفات المهمة التي اعانت الباحثين كلهم في حقل الآثار.

وينبغي لنا ونحن نذكر اهم المؤلفات والاسهامات العلمية للعلامة باقر التي من الصعب احتواؤها في هذا الاستذكار السريع ان نقف باعجاب امام مؤلفه الموسوم (( مقدمة في تأريخ الحضارات القديمة )) بجزأيه الاول والثاني والذي يعد عملا عالميا ذا قيمة علمية عالية يأخذنا فيه في سياحة تأريخية وحضارية كتبت بأسلوب السهل الممتنع اذ يفهمه كل من يقرؤه ان كان مختصا ام غير ذلك ، فخصص الجزء الاول للحديث عن تأريخ بلاد الرافدين وحضارتها ، في حين كان الجزء الثاني من الكتاب عبارة عن رحلة ممتعة شملت اهم مراكز الحضارات الانسانية فمن اهرامات مصر العجيبة نرحل الى الجزيرة والخليج العربي ومنها الى بلاد الشام باقوامهم وحضارتهم العريقة ثم الى حضارة الهند بغرائبها وبلاد الاناضول ومدن الحضارة الفارسية ذاهبا بعدها الى اكروبوليس اليونان ثم الى كوليسيوم وقصة سقوط روما مارا بحضارتي المايا والازتيك في امريكا الوسطى فكان هذا الكتاب سفرا خالدا من الاسفار التي تركها لنا العلامة باقر وشكل ولحد يومنا هذا اهم ما اُلف وكتب في هذا المجال .

ولايمان العلامة باقر بأن الحضارة الحديثة والانجازات العلمية المعاصرة لم تأتِ من فراغ بل اقيمت على تراث ومنجزات سابقة كان الفضل في الكشف عن الكثير منها لعلم الآثار من خلال النصوص الطينية المكتشفة التي تتعلق بالمعارف العراقية القديمة وخصوصا علم الرياضيات والفلك التي كان للعراقيين القدماء الريادة فيها، ولاستقصاء منجزات الحضارات الاخرى في مختلف مجالات العلوم والمعارف فقد قدم مؤلفه الموسوم (( موجز في تأريخ العلوم والمعارف في الحضارات القديمة والحضارة العربية الاسلامية )) والذي هو واحد من اهم المؤلفات العالمية في مجال تأريخ العلوم ، فضلا عن ذلك فأن للعلامة باقر ابحاثا علمية كثيرة نشرت في مجلات عربية وعالمية لعل اهمها ما نشر في مجلة سومر، وكذلك ما قام به من ترجمة للعديد من الكتب ومن اهمها (من الواح سومر) لأستاذه صموئيل نوح كريمر الذي طلب منه شخصياً أن يترجم الكتاب، وكذلك فأنه ساهم مع مجموعة من الباحثين العرب في ترجمة كتاب ( تأريخ العلم) لجورج سارتون، ومن يقرأ الكتب المترجمة من قبل العلامة باقر فأنه لايشعر على الاطلاق بأنه مترجم من لغة اجنبية اذ انه كان شديد الحرص على انتقاء الجمل وسلامتها اللغوية لهذا نجد ان كتبه وابحاثه الكثيرة خالية من الاخطاء النحوية ولهذا امتازت مؤلفاته بصفتين اساسيتين الأولى،مادتها العلمية الغزيرة والثانية، المسحة الادبية التي كانت تثير الاعجاب. يقول الاستاذ الدكتور فوزي رشيد بهذا الصدد:

(( قدمت له يوما مسودة مقالة قمت بكتابتها وطلبت منه قراءتها وابداء وجهة نظره بها وبعد لحظات من بدئه القراءة هز رأسه وقال لي مبتسماً: هذه الجملة لا تعجبني لاحتوائها على مفعولين، لأن الجملة التي تحتوي على مفعولين كالمرأة المتزوجة من رجلين)) .

وهذا ليس غريباً على استاذنا الراحل اذ انه نشأ في بيت يهتم بالعلم فحرصت عائلته على تدريسه بشكل خاص الموضوعات اللغوية فدرس النحو والصرف على يد والده وعمه وكبار مشايخ مدينة الحلة.

وكما كان العلامة باقر متألقا في حقل التأليف العلمي فأنه كان مساهماً كبيرا في حقل التنقيب الآثاري في العديد من المواقع الاثرية سواء كانت في العراق أم في خارجه عندما أحيل الى التقاعد مجبراً بعد انقلاب عام 1963 بعد ان شغل منصبين مهمين الا وهما مدير الآثار العام ونائب رئيس جامعة بغداد ليسافر الى ليبيا عام 1965 ليعمل مستشاراً في مصلحة الآثار وفي الجامعة الليبية واضعاً هناك اللبنة الاولى في حقل الدراسات الآثارية عبر خمس سنوات من العمل عاد بعدها الى العراق بعد اعادة تعيينه تدريسياً في قسم الآثار - جامعة بغداد حتى تقاعده عام 1978م.. ونشر محرر الملحق علي حسين نص نادر لطه باقر نشر في مجلة العاملون بالنفط الصادر عام 1954 تحت عنوان " العراق من اين جاءت هذه التسمية " وكتب ناجح المعموري موضعاً تحت عنوان " العلامة طه باقر وملحمة جلجامش" جاء فيه: واجهت اثناء اشتغالي على ملحمة جلجامش قطيعة في النص، تبدت لي واضحة، قطيعة انتجها الجنس بوصفه طقساً وممارسة دينية، تميزت بوظائف لها علاقة مباشرة بالحياة وتطور حركتها. من هذا ندرك بان العراقي القديم لم يتعامل مع الجسد بوصفه بؤرة للمتع الحسية وانما باعتباره مكاناً مقدساً تتم من خلاله العلاقة مع الحياة والكون واحترام العقائد والطقوس.

في ذكرى استاذي العلامة طه باقر رحمه الله

بقلم الدكتور بهنام ابو الصوف

عند أستبعاد الدكتور ناجي الأصيل من إدارة الآثار بسبب كونه محسوبا ًعلى النظام الملكي الهاشمي الذي اغتيل ظلماً في صباح ذلك اليوم الحزين. وضعت حكومة عبد الكريم قاسم الأولى على رأس الآثار أستاذنا فؤاد سفر لصداقته لوزير المعارف الدكتور جابر عمر ذو الميول القومية والذي كان زميلاً لسفر في نادي المثنى في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي. بقي فؤاد سفر في منصبه هذا حتى مطلع عام 1959، وعند أول تغيير وزاري حل مكانه أستاذناً الأخر طه باقر، الذي بقى مديرا ًعاماً للآثار ونائباً لرئيس جامعة بغداد في ذات الوقت حتى 8 شباط 1963 لا أظن أني بحاجة إلى سرد ما يتميز به أستاذنا الجليل باقر من صفات أخلاقية عالية ومميزات أكاديمية وعلمية قلّ توفرها في شخص واحد. فهو من أبرز مؤرخي الحضارات القديمة في المنطقة العربية، اكتشفت وترجم العديد من الرقم الرياضية المسمارية في تل حرمل وتل الضباعي في منطقة بغداد الجديدة، ونقل ملحمة جلجامش لأول مرة للعربية مباشرة من الأكدية البابلية،وكانت ترجمته للملحمة التي نسج على منوالها العديدون من أجمل وأكمل الترجمات في اللغة العربية.

لقد أدرك المرحوم باقر بحسه الفطن وبفهمه الواعي والذكي لأحداث الملحمة ومشاعر الحكواتي والكاتب السومري وأحاسيسهما فصاغ الملحمة بالعربية وكأنها تُحكى لأول مرة. وهذا ما كنا نشعر به حين يتلو أحداثها أيامنا ونحن طلبته في مادة اللغة والأدب السومري في قسم الآثار في مطلع الخمسينات رحم الله أستاذنا الجليل طه باقر فقد كانت مادته في قواعد اللغة السومرية على صعوبتها وغرابتها تشدّنا وتجعلنا نُقبل على ساعاتها بشوق ومن أبرز أعماله الترميمية في بابل استظهار وصيانة مسافة من شارع الموكب،وإعادة بوابة عشتار بحجمها الطبيعي في مدخل المدينة التاريخية وصيانة وإعادة تشييد، وبحسب الأصل لمعبد نن- ماخ(السيدة العظيمة) من السقف ليقدم للمواطن والزائر نموذجاً ملا من عمارة المعابد البابلية،واحتذي به في أعمال الصيانة والترميم مستقبلاً. كان يؤخذ عليه بأنه ساري الفكر ومن المقربين بعبد الكريم قاسم . وأنا كنت في تلك الفترة واحداً من القريبين منه جدا، وأقول بكل أمانه وصدق أنه لم يكن لا هذه ولا تلك .

نعم أنه كان من أحرار الفكر وعلماني العقيدة وممن يوصفون بالعالمية Cosmopolitan وربما على شيء من التقدمية كما كان معظم زملائه ومعاونيه في الآثار كذلك ومنهم : فؤاد سفر وبشير فرنسيس ومحمد علي مصطفى ومحمود العينه جي.كانوا على ما أعلم، جميعهم ومنذ بدايات حياتهم في الآثار من المؤمنين بمبادئ الحزب الوطني الديمقراطي لمؤسسة كامل الجادرجي ولم يزيدوا على ذلك حتى النهاية .ونحن الجيل الثاني من آثاري العراق، وبالأخص ثلاثتنا طارق مظلوم وعبد القادر التكريتي وأنا على شاكلتهم، ولهذا بعد التغيير الذي حصل في دائرة الآثار بعد 8 شباط 1963 أتهمنا بأننا مثل هؤلاء الأربعة من قادة الآثار آنذاك، إن لم نكن شيوعيين فعلى على الأقل مثلهم.

احتجز طه باقر وبشير فرنسيس ومحمد علي مصطفى لبضعة أسابيع في أعقاب الإطاحة بحكومة عبد الكريم قاسم ونظامه. ثم أفرج عنهم بالتعاقب. عاد محمد علي مصطفى إلى الدائرة بعد فترة، وأحال بشير فرنسيس نفسه على التقاعد،وسافر طه باقر إلى ليبيا بعقد مع سفارتها في بغداد ليكون مستشاراً آثارياً لحكومتها .بقي هناك ما يقرب من عشرة سنوات وضع لهم خلالها أكثر من مؤلف في تاريخ ليبيا في عصور ما قبل التاريخ وفي العصور الحجرية وغيرها. وفي مطلع السبعينيات توجه إلى ليبيا صالح مهدي عماش وزير الداخلية آنذاك لإقناع الاستاذ طه باقر للعودة إلى العراق بتوجيه من مجلس قيادة الثورة. عاد الأستاذ باقر إلى بغداد وأختير فور عودته عضواً في المجمع العلمي العراقي، كما عين أستاذا في قسم الآثار في جامعة بغداد.وقد بقي في هذين المنصبين حتى توفاه الله في مطلع الثمانينات من القرن الماضي.

مشيّد صرح مدرسة الآثار العراقية الحديثة

( بقلم حميد المطبعي - باحث ومؤرخ )

لماذا وكيف نقول عن طه باقر انه مؤسس المدرسة الاثارية العراقية الحديثة؟

لان المدرسة الاثارية العراقية القديمة اسسها علماء اثار اجانب في اواسط القرن التاسع عشر (فرنسيون في بداياتهم ثم انكليز ثم اخرون) وكانوا ابتدأوا ينقبون في باطن الارض العراقية، في نينوي وبابل وضواحي بغداد، وعندما اكتشفوا الاثار واللقي وخزف القرون الاولي أرخوها وكتبوا عنها بنفس اجنبي (اي بما يلائم اطروحاتهم القصدية) واساءوا الي حرمة التاريخ العراقي، وارجعوا بعض حضارات العراق الي سلالات غريبة او هجينة، اذ هم كانوا كالمبشرين الغزاة يرسمون للعراق صورة مهزوزة طالما رسمت في دوائر الاستخبارات الغربية في اوربا الجديدة.

ومنذ عام 1941 تهيا لطه باقر ان يقتحم التاريخ العراقي ويفتش عن الزوايا المظلمة والمضيئة فيه، وقال في اول بحث اثاري: (لنا نحن العراقيين ان نكتشف تاريخنا بجهدنا ودماغنا والمنطق الذي نحمله) ثم اسس هو ورفاقه (مجلة سومر) سنة 1945 واذا به يحرر نصا هنا ونصا هناك لكي يقول في نهاية نصوصه: (منطقنا هو الصحيح في توريخ الأثر العراقي وليس منطق غزاة الاثار) فكان نداؤه هذا بداية تشكيل مدرسة اثارية عراقية حديثة، وكان يسانده في هذا التشكيل التاريخي كل من فؤاد سفر والمنقب الخبير الاصيل محمد علي مصطفي، وهؤلاء هم الجيل الاثاري الاول في عراق حديث يتحول الذين تخرج بهم الجيل الاثاري الثاني في بداية الستينات من القرن الماضي وهم بهنام ابو الصوف وطارق مظلوم وعبد القادر التكريتي.

هل اختص طه باقر بتاريخ بين النهرين فقط؟

اولا تعبير ومصطلح (بين النهرين) الذي يشير الي العراق هو مصطلح خطا ومغلوط اساسا، وهو مصطلح يوناني قديم استعماري في مغزاه، يراد منه حصر العراق بين رافدين- نهرين- دجلة والفرات، اي ان خارج هذين النهرين لا يمت لخريطة العراق، ونظرا للاطماع الاستعمارية التي تحيط بالعراق فقد داب الباحثون الاجانب تعميق ذلك المصطلح.. بينما العراق كل العراق ليس محصورا بين نهرين انما هو العراق داخل هذين النهرين وخارج هذين الرافدين وكما رسمه السومريون او البابليون فيما بعد. او كما تناوله طه باقر في ابحاثه الاثارية وموسوعاته الحضارية .!

ما هي الملامح الرئيسة لمدرسة طه باقر الاثارية؟

1- في عام 1941 عين طه باقر امينا للمتحف العراقي، فهو اول من انقذه من العبثية والاهمال، اذ وضع له منهجا علميا في عرض الاثار بحسب تسلسل ادوارها التاريخية والحضارية، وكان يستند في ذلك علي خبرته في التنقيب ودراسته للغات القديمة ووعيه الجدلي لادوار حضارة العراق مدعوما بقراءته المتعمقة لاثبات الملوك ألواح سومر وبابل وحله الغاز اللغة السومرية وكان من نتائج منهجه هذا ان اخذ طلبة قسم الاثار منذ تاسيسه 1951 يطبقون علومهم في المتحف العراقي وعلي ما سَنَّهُ لهم طه باقر.

2- من مبادئ مدرسته الاثارية ان الحضارات التي قامت علي ارض العراق هي من جذر عراقي اقدم فاقدم، وان الغزاة الذين غزوه لم يتركوا اية بصمة من بصماتهم عليه وان اطالوا السفر في ربوعه مما يدل علي ان الاصالة العراقية ترفض الدخالة او (النغولة) مهما عظم شانها وقوتها الزمنية. وكان طه باقر اراد من تأصيله للحضارة العراقية ان ينبه الاجيال الاثارية الجديدة بان وطنية الاثار مزكاة في اي باطن عراقي، فهي الوطنية بعد ذلك لاتباع ولا تشتري.

3- علي الاثاري العراقي ان يمارس (التنفيب) اي الحفر في اعماق الارض، فبالصراع مع التربة والتقليب ومعاناة الاكتشاف يستطيع ان يتامل ثم يستقريء ثم يستنبط فاذا مر بهذه الادوار استطاع ان يكتب بحثا ثم دراسة ثم يؤلف نظرية او اجتهادا خاصا به. فعن طريق جهد الوعي بالارض تنبثق المعرفة الاثارية وعن طريق الاستدلال نتوصل الي معرفة من هو الصحيح ومن هو الخطا في اثارنا.

هل طبق هذه النظرية ومارس التنقيب بنفسه؟

لقد نقب كثيرا في جميع مراحله، ليس هواية بل اراد ان يبرهن لزملائه وطلاب الاثار في الجامعة بان التنقيب هو عين التاريخ الفاحصة الامينة، وبان التاريخ لا يكتب الا بين طبقات الارض المملوءة بفرح الاجداد او منجزاتهم الاولي وقد نشر نتائج تنقيباته في مجلة سومر ودوريات عربية اخري كما تراس بعثات تنقيبية عديدة وعاش في الجبال والصحاري والسهول في خيم تحت رحمة الرياح والعواصف، مازلنا نتذكر نتائج تنقيباته وهيئاته في تلال اليوسفية وبطائح الكوت ورمال عقرقروف وتل حرمل وفي مناطق شهرزور ودوكان، وكان يرافقه في اثناء ذلك قلم ملون وخريطة وازميل وفاس ورزمة من الشمع ورزمة من كتب الحضارات، واحيانا كان يرافقه جوع وخوف من الضواري والثعابين.

انه بتنقيباته يكتشف وثائق لكن كيف كان يعرف زمن الوثيقة؟

كان يذهب الي ذلك الي طريقة تعيين الحدين الادني والاعلي في زمن الوثيقة بالنظر في الحوادث المذكورة فيها (وله في ذلك ابحاث عديدة) فالحد الاعلي عنده هو الزمن الذي لا يمكن ان تكون الوثيقة قد كتبت قبله، والحد الثاني اي الزمن الذي لا يمكن ان تكون الوثيقة قد كتبت بعده. ومن ذلك يقول طه باقر اننا سنحصل بين هذين الحدين علي تاريخ تقريبي للوثيقة المجهول زمن تاليفها.

هل ثمة قيمة ما لدراسة التاريخ القديم في نظر طه باقر؟

1- التاريخ هو صورة تطور الانسان منذ اقدم عصوره.

2- يكشف لنا عن الاصول الاساسية لتراث البشرية.

3- اذا لم تكن للبشرية ذاكرة كما للفرد فان التاريخ هو ذاكرتها او ضميرها.

4- يطلعنا هذا التاريخ علي سنين نشوء الحضارات وعلل نموها واسباب توقفها عن النمو وركودها ثم عوامل انحلالها وزوالها ومن خلال كل ذلك نشا علم جديد في التاريخ هو (فلسفة التاريخ).

كل مؤرخ كبير قال شيئا عن مصادر التاريخ القديم، فما راي طه باقر بذلك؟

حدد طه باقر هذه المصادر:

1- الكتب المقدسة ولاسيما (التوراة) اليهودية وهي اول من تحدث عن العراق القديم وطه باقر اخذ الحذر من نقل اخبارها لانها مشوبة بالخيال والاساطير، وفيها عصبية وعداء للعراق التاريخي.

2- المؤرخون الكلاسيكيون امثال هيرودوتس وزنيفون ومن جاء بعدهم بقليل وهؤلاء هم ايضا يخلطون الواقع بالاسطورة وتشم من كتاباتهم رائحة الكراهية لحضارة العراق وخاصة ما جاء في تاريخ هيرودتس (تاريخ العالم) بعشرة اجزاء خصص الاول منها لتاريخ بابل.

3- كتب الرحالة الاجانب ولاسيما رحالة اوربا الذين وصفوا العراق منذ القرن الثاني عشر الميلادي ومنهم (بنيامين التطيلي) 1160م، وغالبية شروحاتهم مدسوسة ومختلقة.

4- التنقيات والتحريات الاثارية وبدات علي ايدي قناصل الدول الاجنبية واشهرهم: (بوتا ) و(لايرد) و(رولنصن) منذ عام 1842م. وكانوا قد وقعوا في اخطاء قاتلة ثم سرقوا اثارنا.

كيف كان طه باقر يؤرخ، هل اتبع طرقا خاصة لكتاباته؟

تمر الكتابة التاريخة في ذهن طه باقر بعدة مراحل تركيبية، وهي:

1- تخيل الحقائق وتصورها في العقل. اذ يجعل الاثار القديمة صورة مصغرة لحاضره ويبدأ بها من الافتراض الي التحليل.

2- تنسيق الحقائق ونجمع فيما بينها اولا ثم تقسيم الحقائق الي مجاميع واجزاء متشابهة بحسب مواضيعها.

3- القدرة الاجتهادية ويسميها الاستنتاج التاريخي ويحدث ذلك عندما يكتشف ان هناك فجوات بين حلقات التاريخ او الماضي وهذا الاجتهاد اما عقلي واما منطقي.

4- مرحلة استخراج القواعد العامة للوصول الي (التدوين) اي تاليف المادة وعرضها عرضا فنيا ومنهجيا.

ما هي انواع (التدوين) في رؤيته لتاريخ العالم؟

1- نظام الحوليات، وهي ذكر الحوادث عاما بعد عام.

2- عرض الحوادث عرضا عاما واشمل من الحوليات.

3- كتابة التاريخ علي هيئة القصة او الرواية المرتبة علي العهود التاريخية من دون السنين.

أي طريق فضلها في كتابة تاريخه؟

طريقته الخاصة القائمة علي العرض والتحليل وخيال الذاكرة وتحوير النص الاجنبي وتكييفيه والذهنية العربية، ولابحاثه سحر الاداء ومتانة النص.

ماذا قدم لنا من نماذج تاريخية؟

1- يكفيه فخرا انه انجز لنا موسوعة (في تاريخ الحضارات القديمة) باجزاء عدة ابتداء من عام 1945 وطبعت له بملجدات في 1986.

2- ويكفيه فخرا انه اول باحث عراقي رائد قدم للمكتبة العالمية (تاريخ العلوم والمعارف في الحضارات القديمة والحضارة العربية) وابتدا بتاليفه منذ سنة 1951 وطبع له سنة 1980.

3- اول عراقي ترجم لنا (ملحمة كلكامش) 1945 وطبعت بطبعات عدة 1962 و1971 و1975، وقدم الكتاب بمقدمة عرفتنا علي لغة ومفهوم لماذا العراقي شجاع وبطل ومفسر ظواهر.. وكان القارئ العراقي يحب ان يتشبه بكلكامش بعد نهايته من قراءة الملحمة بل كان طه باقر هو الذي صاغ وكتب الملحمة وليس الرواية كلكامش لبراعته في الترجمة وتقريب التاريخ كانه لحظة.

4- قدم لنا رائعته الفاخرة بعنوان (المرشد الي مواطن الاثار والحضارة) بستة اجزاء 1962- 1966 وكان يفترض ان تصدر بـ (14 رحلة) لولا حصاره من قبل الانظمة والتحاقه بالجامعة الليبية للاستشارة والتدريس، وكان في رائعته هذه يطوف علي مدن وقري شمالي العراق ويتحدث عن بواطنها الحضارية مرة باسلوب الرحالة الجميل ومرة كعالم اثاري يستنطق الحجر الاصم ومرة كمؤرخ يدون ايامه علي الطبيعة ثم يهتف (اتذكرون انني العراقي وعالمي هو الكون ) .

5- وعدا كتبه (العشرين) في التاريخ والاثار ترجم ونقد واستنبط وحبر وصحح التواريخ. وشارك في عشرين مؤتمرا عالميا وعربيا كان هو المبرز بين علماء المتاحف العالمية. وفي كل مؤتمر كان يحكي ملحمة العراق او الق القدامي.

وهل كانت له انجازات علي صعيد الوظيفة؟

1- هيأ لنا متحفا اثاريا من لا شيء.

2- هيا لنا ثروة من الابحاث الاكاديمية لتربية العقول الاثارية.

3- كان مع العالم الفيزياوي عبد الجبار عبد الله يؤسس جامعة بغداد 1957.

4- وضع لمديرية الاثر اسس البناء المنهجي العلمي. وبعد قيام ثورة 14 تموز 1958 ساله الزعيم عبد الكريم قاسم (هذه وزارة التربية تنتظرك) اجاب طه باقر (الاثار افضل من الوزارة) فابتسم قاسم وعينه (مديرا عاما للاثار) حتي عام 1963 حين سجنته السلطة ليقف امام المحقق ويساله عن (شغفه وعشقه لقاسم) فقال للمحقق الجنائي (نعم، وما الضير في ان يكون عبد الكريم رمز العراق ).

هل سبق ان قدم للتحقيق كونه شيوعيا؟

لم يكن منتميا للحزب الشيوعي في يوم، لكنه ايدهم كونهم تيارا في الفكر التقدمي منذ بداية الاربعينات، وتصاعدت عليه (التهمة الشيوعية) عام 1959 حين ظهر اسمه وتوقيعه علي مضبطة تؤيد نهج عبد الكريم قاسم في حكم العراق.

هل ثمة شيء اخر في وثائقه الوطنية؟

كان ضابط احتياط 1941 وعندما قامت حركة مايس ايدها وكان في معسكر التاجي وبعد فشل الحركة هرب من الجيش سباحة في نهر دجلة واختفي مدة. وفي عام 1960 قدم مع عبد الفتاح ابراهيم ورفاقه طلبا بتاسيس (الحزب الجمهوري) وهم نخبة معرفية يسارية منهم محمد مهدي الجواهري واحمد جعفرالاوقاتي وصديق الاتروشي وعبد الحليم كاشف الغطاء وفريد مهدي الاحمر.

لماذا اصطف مع عبد الفتاح ابراهيم؟

عبد الفتاح كان علي راس المدرسة الليبرالية (الثورية) في العراق وكانت افكاره تجد هوي نفسيا في اعماق طه باقر. الذي ما كان في باطنه الاليبراليا ثائرا وعلي طول ايامه، والمبدعون الكبار في التاريخ ليبراليون علي الفطرة.

هل يوجد بعد طه باقر مثيل او شبيه به في عبقرية الاثار؟

لا يتكرر او يتشابه شبيهان في تاريخ واحد.

عقله العلمي من اين؟

درس في كلية صفد بفلسطين وفي الجامعة الامريكية ببيروت ثم انهي الماجستير في الجامعة الامريكية 1937 ثم درس علي مواهبه فاتقن حرية الاجتهاد . ولاية اسرة انتسابه؟

-هو طه بن باقر بن ناصر بن حسين آل عزام وظهرت اوائلهم في مدينة الحلة في قرية (السادة) ويرجعون الي زيد الشهيد. اسرة حسينية علوية، وفي طفولته لبس العمامة السوداء ودرس علي عمه مبادئ الفقه والبلاغة والتفسير

طه باقر مع موظفي الاثار

تل العقير

( بقلم محمد العبيدي )

معبد يقع في منطقة العقير، بالقرب من قضاء المحاويل ، محافظة بابل واكتشف هذا التل ، من قبل الأستاذ المرحوم الاثاري ( طه باقر ) من المعرف أن أول مااكتشف في هذا الموقع هو وجود الرسوم الجدارية على جدران هذا المعبد . ومن المعروف الرسوم الجدارية تعود إلى النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد.

أي العصر الشبيه الكتابي . الرسوم الجدارية عادة من الفنون التي تتأثر بفعل العوامل الطبيعية والجوية وقبل الدخول في تفاصيل الرسم الجداري لابد من إعطاء فرصة تاريخية لعملية تشييد المعبد :

المعبد مشيد على مصطبة ذات قاعدة بناء وارتكاز صلبة على الأغلب من مادة ( اللبن الطينية ) ومن ثم يتم الصعود إليه بسلم مشيد هو الأخر من المادة نفسها ولذلك شيدت اغلب بناءات تلك الفترة من هذه المادة لتوفرها في الطبيعة ، المعبد بمساحة متوسطة يتم فيه ممارسة الطقوس الدينية ، والارتقاء الأمثل لكسب رضا الالهه.

الرسم ألجداري في المعبد يتم وصفه بالشكل الآتي :

زوج من الفهود المرقطة منفذ على طلاء من الجص ، وبمستويات مختلفة الفهد الأول بجانب والآخر بجانب السلم من الجهة المقابلة وهما في حالة تأهب ووثوب عالي اضهرت تلك الصفات من خلال الدراسات التشريحية ، للأرجل والأقدام والفكين في الوجه من الأمام وهنا نصل إلى حالة ، وان الفهد في حلة تأهب للقيام بعملية القفز .أو الانطلاق والانقضاض على شيء معين ، ويبدو على كل واحد يحاول أن يدنس حرم المكان والعبث بقدسيته ، هذا الرسم في التحليل الفني يعطي الأفكار الآتية :

أسلوب التنفيذ وثوب الحركة بالانطلاق أو القفز هيمنة جسم الفهد ، وجوده في مكان يلعب ضمن دائرة مهمة وهي دائرة المعتقد الديني ،كلها بدأت تجتمع لان توصل اللغة البلاغية ، من خلال هذه الصفات إلى المتلقي لذي لابد عليه ان يفرض حالة الاحترام والتبجيل ، إلى قدسية المكان واحترام مفروض إزاء حرم الإله.

هذه الرسالة التي يبثها المشهد قد تكون الوحيدة ، في تبرز المهيمنات القدسية والروحية ذات ، المستوى الطقوسي والشعائري التي تنقل بدورها إلى جمهر المتلقين من الجماعة ، هذا التبجيل العالي أعطى للمكان فرصة كبيرة أخرى وهي التعامل النفسي مع الرسوم الجدارية الموجودة. لتأخذ بنظر الاعتبار أينما وجدت وخصوصا في الأماكن المستوى الأدائي من إقامة تلك الطقوس والشعائر.

الأمر الآخر وثوب الحركة وبحركات مختلفة أراد الفنان الرافديني، أن يعطي برسمه علامة مميزة أخرى، هو تعامل اللغة الجديدة وهي دلالة الرموز، وكلها كانت تحصيل حاصل واستعارات، من البيئة وحتى التكرار في الرسوم الأخرى لايغير من دلالات، وتنوع الحركات وحتى وان كان بدلالة المكان .

يرى الكاتب أن وجود زوج من الفهود تقترب من أن تكون علامات حراسية تلعب في قدسية المكان أكثر من غيرها ولذلك عوامل التحفز والوثوب والتهيؤ كلها ايعازات لم تكن مستعارة، أو داخلة على الحيوان دون طبيعته، وإنما هي دلالات تثبت المعنى وتريد أن تبلغ المتلقي أنها عوامل تلعب بدائرة المعتقد الديني قبل كل شيء. حركات الفهود مجتمعة هي قرارات لتفويت الفرصة على كل من يدخل المكان بصورة غير شرعية، وكذلك الابتعاد عن الاسترخاء الحركي المعلن الذي يؤديه، هذا الزوج من الفهود الحوافز الأخرى ربما تكون كفيلة بان تعطي للمكان أهمية أخرى، وهي واقعية الجلوس والتأهب والوثوب والقفز والحركة كلها تصب في ترسيخ أن يكون المكان هو فضاء مقدس، تمارس فيه كل أشكال التعبير في بلاغات الخبرة الدينية من خلال حتى القرابين المقدمة ، ووجود ممارس الطقس أو الشعيرة في أن يستطيع بمقدوره صهر وتوجيه كل الاستجابات الانفعالية في بنيات سلوك الانسان الرافديني القديم .

عزف منفرد لقارئ الطين

( بقلم:سلام الشماع )

لو كان العراق في ظرف غير ظرفه الحالي لأقام احتفالات كبرى بذكرى مرور 26 سنة على رحيل العلامة العراقي طه باقر الذي لقب بـ ( قارئ الطين ) . هذا الرجل أصّل الوطنية العراقية وحلّ ألغاز اللغة السومرية وكان من نتائج منهجه أن أخذ طلبة قسم الآثار منذ تأسيسه 1951 يطبقون علومهم في المتحف العراقي وفقاً لما سَنَّهُ هو لهم .

وعندما عين عام 1941 أميناً للمتحف العراقي، أنقذه من العبثية والإهمال، بوضعه منهجاً علمياً في عرض الآثار بحسب تسلسل أدوارها التاريخية والحضارية مستنداً في ذلك على خبرته في التنقيب ودراسته للغات القديمة ووعيه الجدلي لأدوار حضارة العراق مدعوماً بقراءته المتعمقة، كما يقول الباحث العراقي حميد المطبعي .

وأثرى ( طه باقر ) المكتبة العربية والعالمية بمؤلفات لها قيمة كبيرة، فقد كان منجماً عراقياً في معارفه وتشوفاته بحضارة وادي الرافدين، وخلّف عشرين مطبوعاً بلغات متعددة امتازت كلها بالثراء العلمي وبلاغة الأسلوب وجماله .

يقول العلامة باقر ( لو لم يأتنا من حضارة وادي الرافدين ومن منجزاتها وعلومها ومتونها شيء سوى ملحمة كلكامش لكانت جديرة أن تتبوأ تلك الحضارة مكانة سامية بين الحضارات العالمية القديمة ).

وأقول؛ لو كان طه باقر قد ترجم لنا ملحمة كلكامش وسكت لكفاه ذلك فخراً ولكنه قدم بالإضافة إلى ذلك مفاخر كثيرة .

ويطلق باقر على الحضارة العراقية اسم ( حضارة وادي الرافدين ) ، ويرفض بشدة تسمية ( بين النهرين ) وله في ذلك نظر، إذ يعتقد أن هذا المصطلح خاطئ ومغلوط أساساً، فهو يوناني قديم استعماري في مغزاه، يراد منه حصر العراق بين رافدين - نهرين - دجلة والفرات، أي أن خارج هذين النهرين لا يمت إلى خريطة العراق، ونظراً للأطماع الاستعمارية التي تحيط بالعراق فقد دأب الباحثون الأجانب على تعميق ذلك المصطلح .. بينما العراق .. كل العراق ليس محصوراً بين نهرين، إنما هو العراق داخل هذين النهرين وخارج هذين الرافدين وكما رسمه السومريون أو البابليون فيما بعد، أو كما تناوله طه باقر في أبحاثه الآثارية وموسوعاته الحضارية .

يتساءل الباحث المطبعي لماذا وكيف نقول عن طه باقر إنه مؤسس المدرسة الآثارية العراقية الحديثة؟

ويجيب لأن المدرسة الآثارية العراقية القديمة أسسها علماء آثار أجانب في أواسط القرن التاسع عشر (فرنسيون في بداياتهم ثم إنجليز ثم آخرون ) وكانوا ابتدأوا ينقبون في باطن الأرض العراقية، في نينوى وبابل وضواحي بغداد، وعندما اكتشفوا الآثار واللقى وخزف القرون الأولى أرخوها وكتبوا عنها بنفس أجنبي ( أي بما يلائم أطروحاتهم القصدية ) وأساءوا إلى حرمة التاريخ العراقي، وأرجعوا بعض حضارات العراق إلى سلالات غريبة أو هجينة، إذ هم كانوا كالمبشرين الغزاة يرسمون للعراق صورة مهزوزة طالما رسمت في دوائر الاستخبارات الغربية في أوربا الجديدة .

وكان العلامة باقر شديد الحذر في بحوثه ودراساته من نقل أخبار الكتب المقدسة ولاسيما ( التوراة ) اليهودية وهي أول من تحدث عن العراق القديم، لأنها مشوبة بالخيال والأساطير، وفيها عصبية وعداء للعراق التاريخي، مثلما كان حذراً من المؤرخين الكلاسيكيين أمثال هيرودوتس وزنيفون ومن جاء بعدهم بقليل وهؤلاء أيضاً خلطوا الواقع بالأسطورة وتشم من كتاباتهم رائحة الكراهية لحضارة العراق وخاصة ما جاء في تاريخ هيرودتس ( تاريخ العالم ) بعشرة أجزاء خصص الأول منها لتاريخ بابل .

ورأى العلامة باقر أن غالبية الشروحات التي وردت في كتب الرحالة الأجانب ولاسيما رحالة أوربا الذين وصفوا العراق منذ القرن الثاني عشر الميلادي ومنهم ( بنيامين التطيلي ) 1160م، هي شروحات مدسوسة ومختلقة، وأن قناصل الدول الأجنبية وأشهرهم : ( بوتا) و(لايرد ) و(رولنصن ) منذ عام 1842م، الذين بدأت على أيديهم التنقيات والتحريات الآثارية، كانوا قد وقعوا في أخطاء قاتلة ثم سرقوا آثارنا .

ومما يدلك على شغف العلامة باقر بالآثار وعلى شجاعته أن الزعيم عبدالكريم قاسم سأله بعد قيام ثورة 14 تموز 1958 ( هذه وزارة التربية تنتظرك ) فأجابه طه باقر ( الآثار أفضل من الوزارة ) فابتسم قاسم وعينه ( مديراً عاماً للآثار ) حتى عام 1963 حين سجنته السلطة ليقف أمام المحقق ويسأله عن ( شغفه وعشقه لقاسم ) فقال للمحقق الجنائي ( نعم، وما الضير في أن يكون عبدالكريم رمز العراق؟ ).

وفي محنة الاحتلال التي يقاسيها العراق، الآن، أدعو العراقيين إلى تذكر درس من مبادئ مدرسة طه باقر الآثارية، لأن ذلك يشد من أزرهم في مقاومة الاحتلال، وهو : أن الحضارات التي قامت على أرض العراق هي من جذر عراقي أقدم فأقدم، وأن الغزاة الذين غزوه لم يتركوا أية بصمة من بصماتهم عليه وإن أطالوا السفر في ربوعه مما يدلّ على أن الأصالة العراقية ترفض الدخالة أو ( النغولة ) مهما عظم شأنها وقوتها الزمنية، فالوطنية لا تباع ولا تشترى .

المصدر

الاثاري العراقي د. بهنام ابو الصوف