مجزرة كاورباغي

دأبت حكومة أرشد العمري، شأنها شأن الحكومات المتعاقبة على سدة الحكم في العهد الملكي، على إتباع سياسة العنف ضد موجة الاحتجاجات والمظاهرات الشعبية ، التي كانت تندلع بين آونة وأخرى، سواء كانت دوافعها تتعلق بمطالب اجتماعية أو سياسية ، ولم يثنها تحذير الأحزاب السياسية في مذكراتها التي كانت ترفعها للوصي عبد الإله والملك فيصل الثاني فيما بعد، ورؤساء الحكومات ، بل كانت تمضي تلك الحكومات في سياستها وغيها، واستخدامها لأشد أساليب العنف ضد أبناء الشعب المطالبين بحقوقهم المشروعة في الحياة الحرة الكريمة .

اضراب عمال شركة نفط كركوك

كان من بين تلك الأحداث التي تعاملت معها حكومة ارشد العمري بسياستها المعهودة والمتسمة بالعنف، المطالب السلمية التي تقدم بها عمال شركة نفط كركوك، والمتعلقة بتحسين احوالهم المعيشية ، حيث كانوا قد تقدموا لشركة نفط كركوك بعدد من المطالب المعيشية على أمل أن تستجيب لها .

لكن الشركة تجاهلت تلك المطالب رغم كل التأكيدات والمذكرات المرفوعة لها، ولما يئس العمال من استجابة الشركة إلى مطالبهم لجاءوا إلى الإضراب عن العمل في 3 تموز 1946 حتى تستجيب الشركة لمطالبهم التي تضمنت زيادة الأجور، وتهيئة دور سكن لعوائلهم، أو منحهم بدل إيجارالدار، وتخصيص سيارات لنقلهم إلى مقر عملهم في الشركة ، ومنحهم إكرامية الحرب أسوة بعمال النفط في حيفا وعبدان، وأخيراً تطبيق قانون العمال الذي شرعته الدولة .

لكن حكومة ارشد العمري بدلاً من أن تقف إلى جانب العمال ومطالبهم المشروعة لجأت إلى ممارسة كل وسائل الضغط والإرهاب لإجبارهم على العودة إلى أعمالهم متجاهلة كل مطالبهم ، غير أنها لم تفلح في ثنيهم عن مواقفهم، وإصرارهم على الاستمرار في إضرابهم حتى تلبي الشركة مطالبهم العادلة .

وفي 7 تموز1946حضر وزير الاقتصاد السيد بابا علي الشيخ محمود إلى كركوك في محاولة للضغط على العمال المضربين بغية إنهاء إضرابهم، ولما فشل في إقناعهم عاد إلى استخدام أساليب التهديد والوعيد ، وقد قابله العمال المضربون بتجمع جماهيري واسع في حديقة { كاور باغي }، حيث ألقيت خلال ذلك التجمع الكلمات التي عبرت عن حقوق العمال المشروعة، وإصرارهم على تحقيق مطالبهم العادلة.

جريمة كاورباغي

لكن الحكومة كانت قد عقدت العزم على إنهاء الإضراب بالقوة، حيث أعدت لهم مذبحة شنعاء. فقد أحاطت بهم قوات من الشرطة تتألف من فوجين ، وبدأت بإطلاق النار على التجمع لتفريقه، وأدى ذلك العمل الإجرامي إلى استشهاد 16 عاملاً ، فيما جرح أكثر من 30 عاملا آخر .

لقد تحدث القاضي السيد جهاد الونداوي عن تلك المجزرة التي ارتكبتها الحكومة بكل وحشية في تقرير له عن الجريمة قائلاً:

{لقد قتلت الشرطة 16 عاملا ، أما الذين جرحوا فقد كانوا أكثر من 30 فرداً، أمتنع معظمهم عن مراجعة المستشفى خوفاً من السجن، وأن أحد مفوضي الشرطة قطع إصبع أحد العمال القتلى للاستيلاء على خاتمه !!. كما أن الشرطة فاجأت المضربين بإطلاق النار عليهم في وقت كانوا هم وذويهم بانتظار عودة ممثليهم الذين كانوا يفاوضون المسؤولين ، وقد استمر إطلاق النار على المضربين زهاء ساعتين على الرغم من أنهم كانوا يهربون من وجه الشرطة}.

كما حاول رئيس المحاكم السيد عبد القادر جميل التدخل لتشخيص الجريمة وتحديد المسؤولية ، لكن الإدارة والوزارة عارضته . ولم تكتفِ الحكومة بتلك الإجراءات الوحشية ، بل سارعت إلى إنزال قوات الجيش إلى شوارع كركوك بدباباتها ومدرعاتها، وأصدرت أمراً بمنع التجول في المدينة خوفاً من ردة فعل الشعب على تلك الجريمة النكراء ، وهكذا لطخت حكومة أرشد العمري أيديها ، مرة أخرى بدماء عمال نفط كركوك ، وأضافت جريمة أخرى إلى جرائمها السابقة بحق الشعب .

التحقيق في الجريمة

لقد أشعلت مذبحة كاور باغي معركة الشعب وقواه السياسية الوطنية ضد الحكومة، واستنكرت الأحزاب تلك الجريمة المروعة ، وأدانت الحكومة ، وحملتها مسؤولية ما حدث، وطالبت بمعاقبة المسؤولين عن المذبحة . ونظراً للهياج الذي أحدثته تلك المذبحة لدى الشعب العراقي ، ونظراً لإصرار الأحزاب الوطنية على إجراء تحقيق عن المجزرة ، ومحاكمة المسؤولين عنها اضطرت الحكومة إلى الإعلان عن إجراء التحقيق ، وكلفت نائب رئيس محكمة الاستئناف في بغداد السيد احمد الطه في 15 تموز بالسفر إلى كركوك ، وإجراء التحقيقات اللازمة في وقائع المذبحة ، وقد قام السيد احمد الطه بالمهمة ، وقدم تقريره إلى وزارة العدل ، وكان أهم ما جاء في التقرير ما يأتي :

1 ـ إن عمل المضربين كان سلبيا وليس إيجابيا، ( أي لم يبادروا بالعنف)

2 ـ لم يكن من اجتماعهم هذا ما يخشى منه على الأمن .

3 ـ إن الشرطة نفسها كانت تعلم بهم قبل الحادث ، وكانت تراقبهم ، ولم يزيدوا في اليوم الأخير الذي وقع فيه الحادث في عملهم شيئاً .

4 ـ إن المجتمعين جميعا كانوا عزلاً من السلاح .

5 ـ إن كل ما قاموا به أن البعض منهم رجم الشرطة بالحجارة بعد أن ضربتهم بالعصي ، وأطلقت النار عليهم وفرقتهم .

6ـ إن معظم القتلى والجرحى أصيبوا بعد أن أدبروا ،( أي أصيبوا من الخلف) .

7ـ إن الشرطة تجاوزت في عملها حد المعقول في أمر تشتيت المجتمعين .

8 ـ إن الإدارة أوقفت أشخاصا ليس لهم يد في التحريض على نفس الحادث .

لقد اتهم التقرير كل من متصرف كركوك حسن فهمي ومدير الشرطة عبد الرزاق فتاح بإعطاء الأوامر، واعتُبر ضابط الشرطة سعيد عبد الغني المسؤول المباشر عن المجزرة .

ورغم أن الحكومة أعلنت تحت ضغط الرأي العام العراقي، والأحزاب السياسية الوطنية عن تقديم المسؤولين عن المجزرة للمحكمة، إلا أن الحكومة لم تكن جادة في ذلك، بل أرادت امتصاص غضب الشعب وثورته، وتهدئة الأوضاع . فلم تكن المحاكمة سوى مهزلة، حيث جرت محاكمة المتهمين الرئيسيين الثلاثة في محكمة جزاء كركوك، والتي أصدرت قرارها ببراءتهم ، وأطلقت سراحهم ، مما دفع بوزير الداخلية عبد الله القصاب إلى تقديم استقالته من الحكومة في 17 آب 1946، وقد أكد الوزير القصاب للسيد عبد الرزاق الحسني ، مؤلف تاريخ الوزارات العراقية، بعد قيام ثورة 14 تموز وسقوط النظام الملكي ، أن السفارة البريطانية هي التي أمرت الحكومة بعدم إدانة المتهمين، بل وزادت في ذلك فطلبت عدم سحب المتهمين من وظائفهم في كركوك، أو نقلهم إلى أي مكان آخر، وطلبت كذلك عدم منح أي تعويض لذوي الشهداء والجرحى، بعد أن كانت الحكومة قد قررت ذلك من قبل ، وقد تراجعت الحكومة عن قرارها إذعاناً لطلب السفارة البريطانية .

ردة الفعل الشعبية

كانت ردة الفعل على تلك المجزرة الرهيبة، وعلى سياسة حكومة أرشد العمري المعادية للشعب وحقوقه المشروعة شديدةً جداً ، تتناسب وتلك الجريمة النكراء ، فقد أخذت الأحزاب تهاجم الحكومة بعنف عبر صحافتها فاضحة إجراءاتها المعادية لمصالح الشعب والوطن، وتدعوا الجماهير الشعبية للتظاهر ضدها، ودعت إلى إسقاطها. وقد ردت الحكومة بتعطيل معظم الصحف ، وخاصة الصحف الحزبية ، وساقت مدرائها المسؤولين ومحرريها إلى المحاكم بتهمة التحريض ضد السلطة ، وكانت تعيد الكرة بعد كل محاكمة لتوجه اتهامات جديدة وتجري المحاكمات الجديدة لهم ، وزجت بالعديد منهم في السجن .

وبسبب تلك الإجراءات اللادستورية دعت الأحزاب الوطنية الثلاثة ، حزب الاتحاد الوطني، والحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الشعب، في 30 آب 1946 إلى عقد اجتماع عام حضره جمع غفير من أبناء الشعب جاوز 5000 مواطن ، حيث ألقيت الخطب المنددة بالحكومة ، والمعبرة عن سخط الشعب وقواه السياسية الوطنية من سياستها، والجرائم التي اقترفتها بحق الشعب، وسلبها لحقوقه الدستورية ، وتجاوزها على الأحزاب وصحافتها.

وفي ختام الاجتماع تم الاتفاق على رفع مذكرة احتجاج شديدة اللهجة إلى الحكومة والى الوصي على العرش [ عبد الإله]،وقد جاء في المذكرة : {إن الجموع الغفيرة المجتمعة بدعوة من حزب الاتحاد الوطني والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الشعب لمناقشة الموقف السياسي الراهن هالها موقف الوزارة الحاضرة بمكافحة الأحزاب السياسية ، ومحاولة شل نشاطها ، وغلق صحفها، وإحالة رؤساء تحريرها إلى المحاكم ، وسجن بعض أعضاء هذه الأحزاب لمجرد إبداء آرائهم في السياسة العامة ، وهو حق من حقوق كل مواطن في بلد له دستور يحترم حرية الرأي ، ويأخذ بنظام الحكم الديمقراطي .

غير أن الوزارة الحاضرة تجنبت الحكم الديمقراطي ، واتجهت بحكم البلاد اتجاهاً استبدادياً مخالفا لأحكام القانون الأساسي ، وهي تتعمد إهماله ولا تحترم ما فيه من نصوص عن حقوق الشعب وحرياته الديمقراطية، وقد وقع في عهدها من الأحداث الجسام ما روع العراقيين كافة ، وما أنذرهم به من خطر جسيم يهدد كيان الشعب ومستقبله ، وما أصبح معه العراقيون غير آمنين ولا مطمئنين على حقوقهم وحرياتهم ، بل وحياتهم.

بالإضافة إلى ذلك لم تستطع أن تصون سيادة العراق وكيانه الدولي ، ففي عهدها نزلت القوات البريطانية في البصرة ، في الوقت الذي يطالب به الشعب العراقي بالجلاء ، ولم تستطع الوقوف الموقف الصحيح لمعالجة مشكلة خطيرة تتعلق بكيان الشعب العربي الفلسطيني ، بل بكيان ومصالح البلاد العربية كافة، وذلك بعرض القضية على مجلس الأمن الدولي ، وهو مطلب الشعب العربي الفلسطيني والشعوب العربية بصورة عامة ، فهي بأعمالها التي أفصحت عن استهانتها بحقوق الشعب وحرياته ، وقانونه الأساسي ، غير جديرة بتحمل مسؤولية الحكم ولا بالإطلاع بالمهمة التي أعلنت أنها تتولى الحكم لإتمامها ، وهي مهمة انتقالية حيادية تتلخص بإجراء انتخابات حرة لمجلس جديد. فنحن نطالب بتنحي هذه الوزارة ، وإقامة وزارة دستورية يرتضي الشعب سياستها}.

أما السيد عبد الرزاق الحسني فقد تحدث قائلاً : إننا لو أردنا نشر كافة الاحتجاجات الحزبية والشعبية ضد حكومة أرشد العمري لتطلب ذلك مجلدات . ونتيجة للضغوط التي تعرضت لها حكومة العمري ، اضطرت الوزارة إلى تقديم استقالتها في 16 تشرين الأول 1946، وتم قبول الاستقالة في نفس اليوم ، ودون أن تستطيع إجراء الانتخابات العامة.

المصدر

انظر أيضا