مئذنة سوق الغزل

مئذنة سوق الغزل

معلومات تاريخية عن المئذنة

للمئذنة البغدادية المعروفة بمنارة سوق الغزل في تاريخ العمارة العربية الإسلامية وفنونها مكانة بارزة بين المآذن التي بنيت في العراق خلال القرنين السادس والسابع الهجريين (الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين) اذ انها تمثل في بنائها مختلف الخصائص الفنية والمعمارية لطراز تلك المآذن..

ويمكن اعتبارها المرحلة الأخيرة من مراحل التطور التي مرت بها المئذنة العراقية في العصرين السلجوقي والايلخاني، ولم تظفر هذه المئذنة بدراسة علمية تاريخية اثرية حتى الآن بالرغم من مكانتها الكبرى، كما ذكرت آنفاً، وسنحاول ان نبرز الجانب المعماري والجانب الفني لها- طبقاً لما لدينا من مصادر تاريخية وأثرية علاوة على انها ما زالت أثراً حياً فاتناً.

كانت هذه المئذنة تتبع فيما تقول مصادر قديمة جامع القصر أو مسجد دار الخلافة الذي بناه الخليفة العباسي علي المكتفى بالله سنة 289-295 هـ/902-908م.

ولم تذكر المصادر شيئاً عن وجود مئذنة له حين بناه الخليفة المذكور غير ان ابن الأثير في حوادث سنة 479هـ/1086م يذكر انه في ربيع الآخر من هذه السنة قد بنيت مئذنة لهذا المسجد.

ويلوح لي ان بناء المئذنة قد جاء متأخراً عن بناء المسجد، فهل يعني هذا ان المسجد بقي بلا مئذنة خلال 190 عاماً؟ وهل كان الآذان يرفع من داخل المسجد أو من أحد أسواره أو من مئذنة تهدمت وبنيت في العام الذي ذكره ابن الأثير، ولعل هذه الاحتمال الأخير هو أقربها للصدق، اذ انه يستبعد ان يستمر المسجد طول هذه المدة من دون مئذنة خاصة انه مسجد الخليفة الحاكم ومسجد الدولة العباسية الرئيسة في بغداد.

وإياً كان الأمر فان ابن الفوطي يذكر انه في سنة 670 هـ/1271م أمر علاء الدين عطا ملك الجويني صاحب الديوان في أيام الملك اباقا بن هولاكو الايلخاني بتجديدها فأنجزت في آخر شعبان من هذه السنة، ثم سقطت في شهر رمضان بعد فراغ الناس من صلاة التراويح. ويذكر انه لم يتأذ أحد ممن كان في المسجد أثناء تأدية الصلاة.

ويذكر ابن الفوطي أيضاً انه في سنة 678هـ/1289م أعيد تشييدها من جديد ولم تذكر مصادرنا شيئاً عن منشئها في هذا الوقت، وقد تهدم جامع القصر وأحرقه المغول ولكن المئذنة ظلت قائمة حتى عصورها الحديثة، ثم أقطعت أرض الجامع وأنشئ في إحدى القطع الشرقية منه سوق لبيع الغزل، وفي العهد التركي شيد أبو سعيد سليمان باشا الكبير والي بغداد سنة 1193-1217هـ/1779-1802م جامعاً في غربي المئذنة عرف بجامع سوق الغزل أزيل سنة 1957 لافتتاح شارع الجمهورية الحديث.

ومهما يكن من شيء فان الرحالة الألماني نيبور الذي زار العراق في القرن الثامن عشر يذكر في رحلته انه شاهد بالقرب من منارة سوق الغزل أجزاء مختلفة من سور المسجد وبقايا مدخلين جميلين احدهما مزين بالكتابة، وظن نيبور خطأ انها تعود للخليفة العباسي المستنصر بالله 633هـ وسار على هذا الخطأ من بعد المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون حيث حاول لويس في كتابه (بعثة الى العراق) ان ينسب تاريخ المئذنة الى ما قبل سنة 633هـ/1235م معتمداً في ذلك على قول نيبور، وذكر كليمان هوار في تقريره عن (خطط بغداد) ان نصف قشرة بدن المئذنة كان مزيناً بالقاشاني ولا أثر للقاشاني في بدنها اليوم.

اما الجنرال ذي بليه فيذكر ان طراز مئذنة سوق الغزل يرجع الى أصول فارسية من دون تعليل، وفي عام 1927 تنبه الباحث العراقي يعقوب سركيس الى أهمية المئذنة التاريخية وأفرد تقريراً لها يذكر فيه:

ان السر برسى كوكس الحاكم البريطاني ببغداد سنة 1917 حاول نسفها بالبارود خشية سقوطها على سكان المنطقة التي تقوم فيها، وذكر ان علامة العراق الشهير السيد محمود شكري الالوسي حمل الحاكم المذكور على ترك الموضوع لأهله فعدل عن نسفها فسلمت المئذنة من الخراب، ثم قامت بلدية بغداد بتقوية قاعدتها وكان المشرف على البناء المهندس الفرنسي المسيو شافانيس، وفيما لدي من تقارير رسمية تفيد انه قد جرت محاولة أخرى لهدم القسم الأعلى من المئذنة حيث قرر المهندسان المعماريان ديليؤ تبودور جاكس وجيمس آر باكستر، وكان يعملان في مديرية الأشغال العامة ببغداد هدم الجزء الأعلى من المئذنة ولكن مديرية الآثار العامة في العراق حالت دون رغبة الأشغال في هدمها. وبعد مفاتحة مديرية الأوقاف العامة تبنت صيانتها.

تقع المئذنة في الجانب الشرقي من بغداد على مسافة يسيرة من الضفة اليسرى لنهر دجلة عند التقاء محلة سوق الغزل بشارع الجمهورية الحديث، وفي وسط هذا الالتقاء بنت مديرية الأوقاف العامة مشكورة وبإشراف المهندس الدكتور محمد مكية مسجداً جامعاً بشان المئذنة تخليداً لذكرى مسجدها العظيم.

الجانب المعماري

اما الجانب المعماري لها فالمئذنة مشيدة من أساسها الى وجه الأرض بالآجر والجير- النورة- والرماد، وما بعد ذلك فمشيدة بالآجر والجص الى قمتها وهي ميزة اتصفت بها مآذن العراق عن بقية مآذن العالم الإسلامي الأخرى من ناحية تشييد المآذن بهاتين المادتين لان الآجر والجص وأحياناً الرماد مواد بنائية متوفرة ومعروفة في هذا الإقليم منذ قديم الأزمنة ولان الآجر أصلح في بناء المآذن ورفعها بالشكل الأسطواني في أرض هذه البيئة الرخوة، ثم انها مادة طيعة سهلة الصنع خفيفة الوزن قابلة للتحوير والتشكيل على الوجه المطلوب، وفي الصورة المتقدمة تظهر ان المئذنة أسطوانية الشكل وهي صفة امتازت بها مآذن العراق عن شقيقاتها مآذن العالم الإسلامي الأخرى، حيث ان جميع مآذن العراق أسطوانية لم يشذ عنها الا مئذنتان فقط، هما المئذنة الملوية ومئذنة جامع أبي دلف بسامراء من منتصف القرن الثالث الهجري (منتصف القرن التاسع الميلادي) ومئذنة عنه في أعالي الفرات من أوائل القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) حيث وصلتنا الأولى بطراز أسطواني مخروطي على قاعدة مربعة والثانية بطراز مثمن على قاعدة مثمنة، ولا خلاف بين المآذن العراقية الأخرى الا من ناحية رسم القاعدة والشرفة (الحوض) والحلية الزخرفية التي تجمل أبدانها سواء برصف الآجر أو زخرفته أو تزيينه بالقاشاني الملون أو المذهب.

تكوين المئذنة وموقعها من مسجد دار الخلافة

اما عن تكوينها فمئذنة سوق الغزل تتألف من قاعدة اثنى عشرية محيطها 20.64م يقوم عليها بدن نصفه اثنى عشري والنصف الآخر أسطواني، وارتفاع المئذنة عن سطح الأرض نحو 33م تقريباً ترتكز على البدن الاثنى عشري شرفة مجددة ارتفاعها على سطح الأرض 7.55م وارتفاع جدارها 1.25م يضم على مدخلين للطلوع، أحدهما يقع في الجهة الشمالية الشرقية والثاني في الجهة الجنوبية الغربية، وقد شيد كل منهما على التناظر بهيئة مستطيل ينتهي بعقد مدبب ارتفاعه 1.70م وعمقه 75 سم ويعلو كل منهما عن باطن الشرفة بمقدار 75 سم أيضاً لحجز مياه الأمطار عن داخل المئذنة، وتؤدي هذه المداخل بعد ذلك الى سلمين او درجين يدوران في باطنها باتجاهين متعاكسين أحدهما لا يرى الصاعد عليه النازل منه وترتكز هذه السلالم على محور أو عمود وسطي من الآجر مشيد بدخلها ويعرف اصطلاحاً (بالفحل).. وأول ما ظهر هذا النظام من بناء السلالم في مئذنة جامع قرطبة بالأندلس وفي ثلاثة مآذن أخرى من مساجد القاهرة وهي: مئذنة فوصون بالقرافة الشرقية وازيك اليوسفي والغوري بالأزهر، وفي العراق في مئذنة الجامع النوري بالموصل ومئذنة أربيل في أربيل بشمال العراق. ومهما يكن من شيء فالجزء الأسطواني في المئذنة يضم نوافذ صغيرة للنور والهواء وينتهي من الأعلى بشرفة أخرى مجددة ومزينة من أسفلها بمقرنصات أو دلايات، ومن وسط هذه الشرفة ينحسر البدن الأسطواني وينتهي بقمة غير مدببة. وما يلاحظ أيضاً ان المئذنة مجددة من أسفلها الى قمتها حيث تعرضت خلال تاريخها الطويل الى تخريب واسع بدل الكثير من معالمها الرئيسة. اما عن موقع المئذنة من مسجد دار الخلافة فان المصادر القديمة لم تذكر موقعها أو بناءها منه، فالمصورات التي بين أيدينا نشاهد فيها ان المئذنة لم تكن متصلة بشيء، وربما كانت في خارج المسجد الذي كانت تتبع اليه أو في فنائه او على مقربة من سوره والذي يهدي الى ذلك هو ان حليتها الزخرفية ظاهرة جميعها لم يحجبها شيء من البناء، وربما كان الطلوع اليها من سور المسجد أو من سلم يتصل بشرفتها الأولى على أغلب الظن، ومع ذلك فان موقعها من المسجد الذي كانت تتبع اليه ما زال معلقاً على ذمة التاريخ.

المصدر

مجلة الكاردينيا