وثبة 1948

انتفاضة 1948، أو وثبة 1948، هي انتفاضة شعبية قام بها الشعب العراقي في يناير 1948 بهدف اسقاط حكومة رئيس الوزراء سيد صالح جبر ومعاهدة پورتسموث. وكانت في الفترة من 1-27 يناير 1948.

بداية الانتفاضة

بدأت الانتفاضة بمظاهرات سلمية سرعان ما تحولت إلى معارك بين الشعب والحكومة، ومنها: واقعة الكلية الطبية، معركة كلية الهندسة، معركة الجسر، ومعركة باب المعظم. وحدث في أثنائها عصيان عام أغلقت خلاله جميع المرافق العامة والخاصة. وسقط في هذه التظاهرات المئات من الطلبة والمواطنين العاديين، بين قتيل وجريح، نتيجة استخدام الذخيرة الحية من جانب شرطة النظام، ومن بين الضحايا الذين نعرفهم: قيس الألوسي وشمران علوان وجعفر الجواهري.

ضربت الشرطة حصاراً على مدخل الكلية الطبية المفضي إلى الشارع العام، القريب من ساحة باب المعظم. وقد تجمع فيه الطلبة منذ الصباح الباكر، مع متظاهرين يعدون بالعشرات، ينتسبون إلى بعض المدارس الثانوية وأفراد من طلبة كلية الطــــب؛ للخــــروج في تظاهرة سلمية. أخذ الطلبة يهدمون السياج الخارجي للكلية بعد أن نفدت عدتهم من الحجارة القليلة التي كانوا يقذفون بها قوات الشرطة المدججة بالأسلحة والسيارات المدرعة التي نصبت فوقها الرشاشات.

غضب وطني شامل، لا طائفية فيه

المسألة الطائفية لم تكن مطروحة أصلا. فرئيس الوزراء، صالح جبر، الذي يمثل أول رئيس وزراء شيعي تسلم الحكم بعد مرور قرابة ثلاثة عقود على إنشاء الحكم الوطني في العراق، فرفضه الشعب العراقي بأجمعه، مع أن الشيعة يشكلون النسبة الأكبر. وقد كان الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري، وهو من أسرة شيعية عريقة، من أشد المحرضين على إسقاطه بقصائده التي تلهب مشاعر المتظاهرين. وقد استشهد شقيقه جعفر برصاص شرطة صالح جبر، فرثاه بقصيدة عصماء تجاوزت المئة بيت، أثارت حماس الجماهير، مطلعها:

أتعلمُ أم أنت َ لا تعلم ُ              بأن جـِراح الضحايا فم ُّ

يصيح على المدقعين الجياع              أريقوا دماءَكمُ تـُطعموا

ويهتف بالنفر المُهطعين              أهينوا لئامكم ُ تـُكرموا

ولهذه القصيدة التحريضية المثيرة دلالات مهمة، تكشف عن مدى رفض العراقيين للنزعة الطائفية. علما أن الأحزاب الوطنية المعارضة كانت تضم مختلف الطوائف والأديان، بما فيها الطوائف السنية والشيعية. كما يمثل كاتب هذه السطور، الذي ينتمي إلى أسرة شيعية محافظة، مثالا واقعيا حيا، لمدى تحرر الشيعة، من قياس الزعيم بمسطرة التشيع والتسنن، بل أن هذا الموضوع لم يكن مفكرا ً به أصلا. وهذه الشذرات تعبر عما عاناه من صعاب، وما تعرض له من أخطار، أثناء تلك الوثبة، ثائرا ضد صالح جبر، بصرف النظرعن شيعيتة، بسبب موقف الأخير المهادن للإنكليز، والمعادي للشعب العراقي. وقد حاول صالح جبر، في أواخر أيام الوثبة، العزف على وتر كون التظاهرات التي انفجرت ضده، كانت بسبب انتمائه المذهبي، وذلك بقصد تحويل الشيعة، الذين كانوا يمثلون أكثرية الجماهير الثائرة، عن موقفهم المعادي له إلى موقف المؤيد له.

ولكنه فشل في هذا المسعى. ففي الأيام الأخيرة للوثبة، أثناء التظاهرة الصاخبة والدامية، وفي وقت أصبحنا فيه مسيطرين تماما على شارع الرشيد بكامله، أي من باب المعظم إلى الباب الشرقي، الذي يمثل قلب العاصمة، والذي خلا تماما من قوات الأمن والشرطة؛ لوحظ ظهور منشورات تشير إلى ذلك. فحرصنا على تمزيقها أو إهمالها. ولم تؤثر هذه المحاولة الأخيرة في إنقاذ صالح جبر، مما اضطره إلى الاستقالة، أو بالأحرى الإقالة، فسقط في مساء 27/1/1948، لاسيما بعد 'مذبحة الجسر' التي حصدت العشرات من المتظاهرين. وجدير بالذكر، أنه على الرغم من الغياب الكامل لقوات الأمن، لم تشوه هذه الثورة أية عمليات كسر أونهب لأي من أهم الشركات والمحال التجارية الكبرى التي كانت تملأ شارع الرشيد، آنذاك. علما أن معظم تلك المحال المشهورة كانت مملوكة لجهات أجنبية أو يهودية أو مسيحية. على سبيل المثال فقط: بيت لنج، وحسو أخوان، ونوفيكس، وكان المحل الأجنبي الشهير والمعروف بـ'أوروزدي باك'، ولكنه لم يصبْ بأي سوء.

وفي الوقت الذي كانت الأزمة تتصاعد، قدم 20 نائبا في البرلمان استقالتهم، احتجاجا على الأساليب القمعية للحكومة ضد أبناء الشعب، بالإضافة ألى استقالة وزير المالية يوسف غنيمة ووزير الشؤون الاجتماعية جميل عبد الوهاب .وفي الوقت نفسه كان عبد الإله مجتمعا في قصر الرحاب مع الشيخ محمد الصدر و نوري السعيد لبحث الموقف وسبل الخروج من الأزمة.

أخذ الوصي برأي الشيخ الصدر وأوعز إلى رئيس الديوان الملكي أحمد مختار بابان للاتصال بصالح جبر والطلب منه تقديم استقالة حكومته، في 27 كانون الثاني 1948 الذي شهد أشد المعارك بين الشعب وقوات الحكومة، وقدم صالح جبر استقالته التي تم قبولها فوراً، وتوجه الوصي بخطاب إلى الشعب من دار الإذاعة، أعلن فيه استقالة الحكومة، داعيا الشعب للإخلاد إلى الهدوء.

حقق الشعب في وثبته هدفان، فقد اسقط المعاهدة، واسقط الحكومة، لكن الوثبة لم تستطع حسم الصراع مع السلطة الموالية للمحتلين البريطانيين، على الرغم من هروب نوري السعيد وصالح جبر إلى خارج العراق ريثما تهدأ الأوضاع، فقد كانت حياتهم مهددة بخطر حقيقي لو تسنى للجماهير الوصول إليهما.

من أهم الأحزاب السياسية الرافضة للمعاهدة

هي: حزب الاستقلال، الذي يمثل أهم حزب عربي قومي، كان يرأسه الشيخ محمد مهدي كبه، وهو عميد أسرة 'بيت كبة' الشيعية العريقة (علماً أن مساعده الأقرب، هو صديق شنشل، كان سنياً، وهذا دليل آخر على ان هذا الموضوع لم يكن مطروحا أصلا ً) - والحزب الوطني الديمقراطي، يرأسه كامل الجادرجي، من أسرة سنية معروفة، وحزب الأحرار وحزب الشعب والحزب الشيوعي العراقي، وهي أحزاب فيها خليط من الشيعة والسنة والمسيحيين وبعض اليهود، على السواء، دون أن تكون قضية التفرقة الطائفية أو الدينية مطروحة أصلا. تلك الأحزاب وقفت ضد إبرام المعاهدة وضد الحكومة، ودعت الجماهير إلى التظاهر لإسقاطهما؛ إلا أن معظم التظاهرات كانت عفوية، أكثر من أن تكون منظمة وموجهة سلفا. فجميع المظاهرات لم تكن فيها قيادات واضحة منظِمة، بل كانت شبه فوضى تتحكم بها الآراء الشخصية الآنية. ومع ذلك كانت هناك توجيهات تنتشر بشأن مكان وزمان اللقاء في اليوم التالي مثلا.

الشيخ محمد الصدر يؤلف الوزارة الجديدة

حاول الوصي عبد الإله تكليف الشيخ محمد الصدر بتأليف الوزارة الجديدة، نظراُ لتمتعه بمركز ديني كبير، إضافة إلى كونه من الطائفة الشيعية، حيث وجد أن الشيخ الصدر هو خير من يستطيع تهدئة الأوضاع. لكن الصدر اعتذر عن المهمة رغم إلحاح الوصي، مما اضطره إلى تكليف أرشد العمري، وقد حاول العمري بالفعل القيام بهذه المهمة لكنه جوبه بمعارضة شديدة من قبل الأحزاب الوطنية التي لازالت تذكر الأعمال التي قام بها عند تشكيل وزارته السابقة، فهو بالنسبة للأحزاب الوطنية والشعب، غير مرغوب فيه، وهكذا فشل العمري في مهمته.

وفي الوقت نفسه أصدرت الأحزاب الوطنية الوطني الديمقراطي والاستقلال والأحرار بيانا إلى الشعب عن تلك الأحداث التي عصفت بالحكومة، وتضمن البيان ستة مطالب من الحكومة القادمة وهي :

1 ـ الإعلان الرسمي عن الغاء معاهدة بورتسموث.

2 ـ إجراء تحقيق دقيق عن مسؤولية إطلاق النار على أبناء الشعب.

3 ـ حل المجلس النيابي، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة.

4 ـ احترام الحريات الدستورية.

5 ـ إفساح المجال للنشاط الحزبي.

6 ـ حل مشكلة الغذاء، بشكل يوفر للشعب قوته.

كما قام زعماء الأحزاب الثلاثة بالاتصال بالشيخ الصدر طالبين منه الرجوع عن موقفه، والقبول بتأليف الوزارة، ونزولاً عند رغبتهم قبل الصدر المهمة رسمياً في 29 كانون الثاني 1948. وجاءت وزارة الصدر من نفس الفئة الحاكمة، باستثناء محمد مهدي كبه، ومن العناصر المعروفة بولائها للبريطانيين.

كانت وزارة الصدر، وزارة تهدئة بعد تلك الوثبة الجبارة التي أوشكت أن تطيح بالنظام، واستطاعت إسقاط حكومة صالح جبر وإسقاط المعاهدة، ومن أجل تهدئة الأوضاع أقدم الصدر على تنفيذ الإجراءات التالية :

1 ـ أتخذ مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة في 31 كانون الثاني قراراً بإلغاء معاهدة بورتسموث وإبلاغ الحكومة البريطانية برغبة العراق بعقد معاهدة جديدة تحقق طموحات الشعب العراقي في الحرية والاستقلال الناجزين، وقد عارض القرار الوزير عمر نظمي الذي قدم استقالته من الحكومة احتجاجا على القرار.

2 ـ قررت الحكومة في 2 شباط تأجيل جلسات مجلس النواب لمدة 50 يوماً، لامتصاص غضب الجماهير، لكن الحملة اشتدت على المجلس من قبل الأحزاب الوطنية والصحافة والاحتجاجات الشعبية طالبين حل المجلس وأجراء انتخابات حرة ونزيهة، ولم ترَ الوزارة بد اً من النزول عند الضغط الشعبي وضغط الأحزاب الوطنية والصحافة، واضطرت إلى اتخاذ قرار بالطلب من الوصي بإصدار الإرادة الملكية بحل المجلس النيابي في 22 شباط، تمهيداً لإجراء انتخابات جديدة.

3 ـ قد اتخذ مجلس الوزراء قراراً بعودة الصحف المعطلة للصدور من جديد، وإطلاق سراح الصحفيين المعتقلين، والذين صدرت بحقهم الأحكام بالسجن، كما جرى إطلاق سراح معظم الطلاب الذين اعتقلوا خلال أحداث الوثبة، وأعادتهم إلى مدارسهم وكلياتهم.

4 ـ قرر مجلس الوزراء فسح المجال للنشاط الحزبي، بعد أن كانت الحكومة السابقة قد ضيقت عليها بكل الوسائل والسبل، بسبب مناهضتها لمعاهدة بورتسموث.

5 ـ تم سحب البعثة العسكرية البريطانية من الجيش العراقي في 22 آذار 1948.

6ـ سعت الحكومة إلى الاتصال بمجلس الطعام الدولي لغرض الحصول على 30 ألف طن من الحنطة بشكل عاجل، لمعالجة أزمة الخبز التي سببتها حكومة أرشد العمري.

7 ـ وافقت وزارة الداخلية على جمع مبلغ 50 ألف دينار لغرض توزيعها على عوائل الشهداء والجرحى، الذين سقطوا خلال الوثبة الوطنية.

المصدر